دعاء

قلت المدون تم بحمد الله : فسبحان الله وبحمده  عدد خلقه وزنة عرشه  ورضا نفسه ومداد كلماته} أقولها ما حييت وبعد موتي  والي يوم الحساب وارحم  واغفر اللهم لوالديَّ ومن مات من اخوتي واهلي والمؤمنين منذ خَلَقْتَ الخلق الي يوم الحساب آمين وفرِّجِ كربي وردَّ اليَّ عافيتي وارضي عني في الدارين  واعِنِّي علي أن اُنْفِقها في سبيلك يا ربي اللهم فرِّج كربي واكفني همي واكشف البأساء والضراء عني وعنا.. وردَّ إليَّ عافيتي وثبتني علي دينك الحق ولا تُزِغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب اللهم وآتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار وتوفنا مع الأبرار وألِّفْ بين قلوبنا اجمعين.يا عزيز يا غفار ... اللهم واشفني شفاءاً لا يُغَادر سقما واعفو عني وعافني وارحمني وفرج كربي واكفني همي واعتقني مما أصابني من مكروه أنت تعلمه واعتقني من النار وقني عذاب القبر وعذاب جهنم وأعوذ بك من فتنة المحيا والممات ومن شر فتنة المسيح الدجال ومن المأثم والمغرم ومن غلبة الدين وقهر الرجال اللهم آمين /اللهم ربي اشرح لي صدري ويسر لي أمري وأحلل عُقَد لساني واغنني بك عمن سواك يارب . اميـن

الثلاثاء، 28 يونيو 2022

إعجاز القرآن الباقلاني

 

إعجاز القرآن - دار المعارف بمصر

المؤلف

القاضي أبو بكر الباقلاني ترجمة المؤلف

وصف الكتاب

إن نبوة محمد صلى الله عليه وسلم بنيت على معجزة القرآن، وإعجازه عمّ الثقلين وهو باق إلى يوم القيامة، وان كان قد علم بعجز أهل العصر الأول عن الإتيان بمثله وجه دلالته فمن باب أولى عجز العصور المتتالية عن الإتيان بمثله، لما للأولين من باع في اللغة. وفي هذا الكتاب يرد الإمام الباقلاني على من أنكر الإعجاز مبيناً مواضع ذلك الإعجاز مضيفاً ما يجب وصفه من القول في تنزيل متصرفات الخطاب، ترتيب وجوه الكلام، وما تختلف فيه طرق البلاغة وتتفاوت من جهته سبل البراعة، وما يشتبه له ظاهر الفصاحة.
ويختلف فيه المختلفون من أصل صناعة العربية والمعرفة بلسان العرب في أصل الوضع، ثم ما اختلف به مذاهب مستعمليه في فنون ما ينقسم إليه الكلام من شعر ورسائل وخطب وغير ذلك من مجاري الخطاب، وان كانت هذه الوجوه الثلاثة أصول ما يبين فيه التفاصح وتقصد فيه البلاغة، مشيراً إلى ما يجب في كل واحد من هذه الطرق ليعرف عظم محل القرآن، وليعلم ارتفاعه عن مواقع هذه الوجوه وتجاوز الحد الذي يصح، أو يجوز أن يوازن بينه وبينها، أو يشتبه ذلك على متأمل.
المحقق: السيد أحمد صقر
حالة الفهرسة: غير مفهرس
الناشر: دار المعارف - مصر
عدد المجلدات: 1
عدد الصفحات: 396
الحجم (بالميجا): 9
نبذة عن الكتاب: - ذخائر العرب 12

تاريخ النشر

1425/5/18 هـ 

روابط التحميل

==

إعجاز القرآن

الباقلاني

الفصل الأول

في أن نبوة النبي معجزتها القرآن

معظم المعجزات خاصة

الذي يوجب الاهتمام التام بمعرفة إعجاز القرآن، أن نبوة نبينا عليه السلام بنيت على هذه المعجزة، وإن كان قد أيد بعد ذلك بمعجزات كثيرة. إلا أن تلك المعجزات قامت في أوقات خاصة، وأحوال خاصة، وعلى أشخاص خاصة، ونقل بعضها نقلاً متواتراً يقع به العلم وجوداً. وبعضها مما نقل نقلاً خاصاً، إلا أنه حكي بمشهد من الجمع العظيم أنهم شاهدوه، فلو كان الأمر على خلاف ما حكي لأنكروه، أو لأنكره بعضهم، فحل محل المعنى الأول وإن لم يتواتر أصل النقل فيه. وبعضها مما نقل من جهة الآحاد، وكان وقوعه بين يدي الآحاد.

القرآن معجزة عامة

فأما دلالة القرآن فهي عن معجزة عامة، عمت الثقلين، وبقيت بقاء العصرين، ولزوم الحجة بها في أول وقت ورودها إلى يوم القيامة على حد واحد، وإن كان قد يعلم بعجز أهل العصر الأول عن الاتيان بمثله وجه دلالته، فيغني ذلك عن نظر مجدد في عجز أول العصر عن مثله، وكذلك قد يغني عجز أهل هذا العصر عن الإتيان بمثله عن النظر في حال أهل العصر الأول.. وإنما ذكرنا هذا الفصل لما حكي عن بعضهم أنه زعم أنه وإن كان قد عجز عنه أهل العصر الأول فليس أهل هذا العصر بعاجزين عنه، ويكفي عجز أهل العصر الأول في الدلالة لأنهم خصوا بالتحدي دون غيرهم، ونحن نبين خطأ هذا القول في موضعه فأما الذي يبين ما ذكرناه من أن الله تعالى حين ابتعثه جعل معجزته القرآن، وبنى أمر نبوته عليه، سور كثيرة، وآيات نذكر بعضها، وننبه بالمذكور على غيره، فليس يخفى بعد التنبيه على طريقه.

الدليل على أن القرآن معجزة النبي

فمن ذلك قوله تعالى: "الّر، كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِليكَ، لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظًّلًمَاتِ إِلى النُّورِ، بإِذْنِ رَبِّهمْ، إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ"، فأخبر أنه أنزله ليقع الاهتداء به، ولا يكون كذلك إلا وهو حجة، ولا تكون حجة إن لم تكن معجزة.

وقال عز وجل: "وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكينَ استَجَارَكَ فَأَجِرْهُ، حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللّهِ"، فلولا أن سماعه إياه حجة عليه لم يوقف أمره على سماعه، ولا يكون حجة إلا وهو معجزة.

وقال عز وجل: "وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ، نَزَلَ بِهِ الرًّوحُ الأَمينُ، عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ"، وهذا بيّن جداً فيما قلناه من إنه جعله سبباً لكونه منذراً، ثم أوضح ذلك بأن قال: "بِلِسَانٍ عَرَبيٍّ مُّبِينٍ"، فلولا أن كونه بهذا اللسان حجة لم يعقب كلامه الأول به، وما من سورة افتتحت بذكر الحروف المقطعة إلا وقد أشبع فيها بيان ما قلناه، ونحن نذكر بعضها لتستدل بذلك على ما بعده.. وكثير من هذه السور إذا تأملته، فهو من أوله إلى آخره مبني على لزوم حجة القرآن، والتنبيه على وجه معجزته.

أدلة أخرى من سورة غافر

فمن ذلك سورة المؤمن، قوله عز وجل: "حّم، تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَهِ الْعَزِيزِ الْعَليم" ثم وصف نفسه بما هو أهله من قوله: "غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ"، إلى أن قال: "مَا يُجادِلُ فِي آياتِ اللّهِ إَلا الَّذينَ كَفَرُوا" فدلّ على أن الجدال في تنزيله كفرٌ وإلحاد. ثم أخبر بما وقع من تكذيب الأمم برسلهم بقوله عز وجل: "كَذْبَتْ قَبْلَهُم قَوْمُ نُوحٍ وَالأَحْزَابُ مِنْ بعْدِهم" إلى آخر الآية، فتوعدهم بأنه آخذهم في الدنيا بذنبهم في تكذيب الأنبياء، ورد براهينهم، فقال: "فَأَخَذْتُهُم فَكيْفَ كَانَ عِقَابِ" ثم توعدهم بالنار فقال: "وَكَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلى الَّذينَ كَفَرُواْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ النَّارِ". ثم عظّم شأن المؤمنين بهذه الحجة بما أخبر من استغفار الملائكة لهم، وما وعدهم عليه من المغفرة فقال: "الَّذينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ، يُسَبِّحُونَ بِحَمدِ رَبِّهمْ، وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ للَّذِينَ آمنوُا. رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً، فَاغْفِرْ للَّذِينَ تَابُواْ وَاتَّبعُوا سَبيلَكَ، وَقِهِمْ عَذَابَ الْجحيمِ".

فلولا أنه برهان قاهر لم يذم الكفار على العدول عنه، ولم يحمد المؤمنين على المصير إليه. ثم ذكر تمام الآيات في دعاء الملائكة للمؤمنين، ثم ذكر على وعيد الكافرين، فذكر آيات، ثم قال: "هُوَ الَّذي يُرِيكُمْ آياتِهِ" فأمر بالنظر في آياته وبراهينه، إلى أن قال: "رَفِيعُ الَّدرَجاتِ، ذُو الْعَرْشِ، يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أمرِهِ عَلَى مَن يَشَاءُ مِنْ عِبادِه، ليُنْذِرَ يَومَ التَّلاقِ" .

فجعل القرآن والوحي به كالروح، لأنه يؤدي إلى حياة الأبد، ولأنه لا فائدة للجسد بدون الروح،جعل هذا الروح سبباً للانذار، وعلماً عليه، وطريقاً إليه، ولولا أن ذلك برهان بنفسه لم يصح أن يقع به الانذار والأخبار عما يقع عند مخالفته. ولم يكن الخبر عن الواقع في الآخرة عند ردهم دلالته من الوعيد حجة، ولا معلوماً صدقه. فكان لا يلزم قبوله فلما خلص من الآيات في ذكر الوعيد على ترك القبول ضرب لهم المثل بمن خالف الآيات، وجحد الدلالات والمعجزات، فقال: "أَوَ لَمْ يَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبةُ الَّذينَ كَانُواْ مِنْ قَبْلهِمْ" إلى آخر الآية.

ثم بين أن عاقبتهم صارت إلى السوأى، بأن رسلهم كانت تأتيهم بالبينات، وكانوا لا يقبلونها منهم، فعلم أن ما قدم ذكره في السورة بينه رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم ذكر قصة موسى ويوسف عليهما السلام، ومجيئهما بالبينات، ومخالفتهم حكمها، إلى أن قال: "الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللهِ بِغَيْر سُلْطانٍ أَتاهُمْ كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللّهِ وَعِندَ الَّذينَ آمنُواْ، كَذَلِكَ يَطْبَعَ اللّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارِ".

فأخبر أن جدالهم في هذه الآيات لا يقع بحجة، وإنما يقع عن جهل، وإن الله يطبع على قلوبهم، ويصرفهم عن تفهم وجه البرهان، لجحودهم وعنادهم واستكبارهم. ثم ذكر كثيراَ من الاحتجاج على التوحيد، ثم قال: "أَلَمْ تَرَ إلى الَّذينَ يُجَادِلُونَ في آياتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ" ثم بين هذه الجملة، وإن من آياته الكتاب، فقال: "الَّذِينَ كَذَّبَوا بِالْكِتَابِ وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ"، إلى أن قال: "وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأَتِيَ بِآيةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَهِ".

الآيات على ضربين

فدل على أن الآيات على ضربين: أحدهما كالمعجزات التي هي أدلة في دار التكليف، والثاني الآيات التي ينقطع عندها العذر، ويقع عندها العلم الضروري، وإنها إذا جاءت ارتفع التكليف، ووجب الاهلاك، إلى أن قال: " فَلَم يَكُ يَنْفَعُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأسَنَا"، فأعلمنا أنه قادر على هذه الآيات، ولكنه إذا أقامها زال التكليف، وحقت العقوبة على الجاحدين.

أدلة من سورة فصلت

وكذلك ذكر في حم السجدة، على هذا المنهاج الذي شرحنا، فقال عز وجل: "حم تَنْزِيلٌ مِنَ الرحَّمْنِ الرَّحِيمِ، كِتَابٌ فَصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ، بَشِيراً وَنَذِيراً".

فلولا أنه جعله برهاناً لم يكن بشيراً ولا نذيراً، ولم يختلف بأن يكون عربياً مفصلاً أو بخلاف ذلك، ثم أخبر عن جحودهم وقلة قبولهم بقوله تعالى: " فَأعْرَضَ أَكْثَرُهُم فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ" ولولا أنه حجة لم يضرهم الإعراض عنه.

وليس لقائل أن يقول: قد يكون حجة ويحتاج في كونه حجة إلى دلالة أخرى، كما أن الرسول حجة ولكنه يحتاج إلى دلالة على صدقه، وصحة نبوته، وذلك أنه إنما احتج عليهم بنفس هذا التنزيل، ولم يذكر حجة غيره. ويبين ذلك أنه قال: عقيب هذا: " قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحُى إِلَيَّ"، فأخبر أنه مثلهم لولا الوحي. ثم عطف عليه بحمد المؤمنين به المصدقين له، فقال: "إِنَّ الَّذينَ آمنَوُا وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونِ"، ومعناه الذين آمنوا بهذا الوحي والتنزيل، وعرفوا هذه الحجة، ثم تصرف في هذا الاحتجاج على الوحدانية والقدرة إلى أن قال: "فَإِنْ أَعْرَضُواْ فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِّثْلَ صَاعِقَةِ عادِ وثَمُودَ"، فتوعدهم بما أصاب من قبلهم من المكذبين بآيات الله، من قوم عاد وثمود في الدنيا.

ثم توعدهم بأمر الآخرة فقال: "وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ"، إلى انتهاء ما ذكره فيه.. ثم رجع إلى ذكر القرآن فقال: "وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لاَ تَسْمَعُواْ لِهذَا القُرْآنِ والْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ".

ثم أثنى بعد ذلك على ما تلقاه بالقبول، فقال: "إِنَّ الَّذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا اللّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوْا تَتَنَزَّلُ عَلَيهِمُ الملائِكَةُ ألاَّ تَخَافُوا ولا تَحْزَنُوا وَأَبشِروا". ثم قال: "وَإمَّا يَنْزغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فاستعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَليمُ"، وهذا ينبه على أن النبي صلى الله عليه وسلم يعرف إعجاز القرآن، وأنه دلالة له على جهة الاستدلال، لأن الضروريات لا يقع فيها نزغ الشيطان، ونحن نبين ما يتعلق بهذا الفصل في موضعه.

ثم قال: "إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آياتِنَا"، إلى أن قال: "إَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لّمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ، لاَّ يَأَتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ".

وهذا وإن كان متأولاً على أنه لا يوجد فيه غير الحق مما يتضمنه من أقاصيص الأولين، وأخبار المرسلين، وكذلك لا يوجد خلف فيما يتضمنه من الأخبار عن العيوب، وعن الحوادث التي أبنّا أنها تقع في الثاني، فلا يخرج عن أن يكون متأولاً على ما يقتضيه نظام الخطاب، من أنه لا يأتيه ما يبطله من شبهة سابقة تقدح في معجزته، أو تعارضه في طريقه، وكذلك لا يأتيه من بعده قط أمر يشكك في وجه دلالته، وهذا أشبه بسياق الكلام ونظامه.

ثم قال: "وَلَوْ جَعَلْنَاه قُرْآناً أَعْجَمِيّاً لَّقَالُوا لَوْلاَ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَعْجمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ"، فأخبر أنه لو كان أعجمياً لكانوا يحتجون في رده: إما بأن ذلك خارج عن خطابهم، وكانوا يعتذرون بذهابهم عن معرفة معناه، وبأنهم لا يبين لهم وجه الإعجاز فيه، لأنه ليس من شأنهم ولا من لسانهم، أو بغير ذلك من الأمور، وأنه إذا تحداهم إلى ما هو من لسانهم وشأنهم فعجزوا عنه وجبت الحجة عليهم به، على ما نبنيه في وجه هذا الفصل، إلى أن قال: " قُلْ أَرَأَيْتُم إن كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُم بِهِ مَنْ أضَلُّ مِمَّنْ هُوَ في شِقَاقِ بَعِيدٍ".

ما ورد في سورتي غافر وفصلت

له مثيل في سور أخرى

والذي ذكرنا من نظم هاتين السورتين ينبه على غيرهما من السور، فكرهنا سرد القول فيها، فليتأمل المتأمل ما دللناه عليه يجده كذلك.

ثم مما يدل على هذا قوله عز وجل: "وَقَالُواْ لَوْلاّ أُنْزِلَ عَليْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الآياتُ عِندَ اللَّهِ وَإِنَّما أَنَاْ نَذِيرٌ مُّبينٌ، أَوَ لَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلى عَلَيهِم".

فأخبر أن الكتاب آية من آياته، وعلم من أعلامه، وإن ذلك يكفي في الدلالة، ويقوم مقام معجزات غيره، وآيات سواء من الأنبياء صلوات الله عليهم، ويدل عليه قوله عز وجل: "تَبَارَكَ الذِي نَزَّلَ الفُرْقَانَ على عَبْدِهِ ليكونَ لِلعَالَمينَ نَذيراً" وقوله: "أَمْ يَقُولُونَ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَإِنْ يَشَأِ اللَّهُ يَخْتِمُ عَلَى قَلْبِكَ، ويُمحُوْ اللَّهُ الْبَاطِلَ، وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلمَاتِهِ".

فدل على أنه جعل قلبه مستودعاً لوحيه، ومستنزلاً لكتابه، وأنه لو شاء صرف ذلك إلى غيره، وكان له حكم دلالته على تحقيق الحق وإبطال الباطل مع صرفه عنه.. ولذلك أشباه كثيرة، تدل على نحو الدلالة التي وصفناها.

فبان بهذا وبنظائره ما قلناه من أن بناء نبوته صلى الله عليه وسلم على دلالة القرآن ومعجزته، وصار له من الحكم في دلالته على نفسه وصدقه أنه يمكن أن يعلم أنه كلام الله تعالى.

الفرق بين القرآن والكتب المنزلة

وفارق حكمه حكم غيره من الكتب المنزلة على الأنبياء، لأنها لا تدل على أنفسها إلا بأمر زائد، ووصف مضاف إليها، لأن نظمها ليس معجزاً، وإن كان ما يتضمنه من الأخبار عن الغيوب معجزاً.

وليس كذلك القرآن، لأنه يشاركها في هذه الدلالة، ويزيد عليها في أن نظمه معجز، فيمكن أن يستدل به عليه، وحل في هذا من وجه محل سماع الكلام من القديم سبحانه وتعالى، لأن موسى عليه السلام لما سمع كلامه علم أنه في الحقيقة كلامه.

وكذلك من يسمع القرآن يعلم أنه كلام الله وإن اختلف الحال في ذلك من بعض الوجود، لأن موسى عليه السلام سمعه من الله عز وجل، وأسمعه نفسه متكلماً، وليس كذلك الواحد منا، وكذلك قد يختلفان في غير هذا الوجه، وليس ذلك قصدنا بالكلام في هذا الفصل، والذي نرومه الآن ما بينا من اتفاقهما في المعنى الذي وصفنا، وهو أنه عليه السلام يعلم أن ما يسمعه كلام الله من جهة الاستدلال، وكذلك نحن نعلم ما نقرأه من هذا على جهة الاستدلال.

الفصل الثاني

في الدلالة على أن القرآن معجزة

قد ثبت بما بينا في الفصل الأول أن نبوة نبينا صلى الله عليه وسلم مبينة على دلالة معجزة القرآن، فيجب أن نبين وجه الدلالة من ذلك.

التيقن من أن القرآن من عند الله

قد ذكر العلماء أن الأصل في هذا: هو أن تعلم أن القرآن الذي هو مثلو محفوظ مرسوم في المصاحف هو الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه هو الذي تلاه على من في عصره ثلاثاً وعشرين سنة.

النقل المتواتر يؤكد ذلك

والطريق إلى معرفة ذلك هو النقل المتواتر الذي يقع عنده العلم الضروري به، وذلك أنه قام به في المواقف، وكتب به إلى البلاد، وتحمله عنه إليها من تابعه، وأورده على غيره من لم يتابعه، حتى ظهر فيهم الظهور الذي لا يشتبه على أحد، ولا يحتمل أنه قد خرج من أتى بقرآن يتلوه، ويأخذه على غيره ويأخذ غيره على الناس، حتى انتشر ذلك في أرض العرب كلها، وتعدى إلى الملوك المصاقبة لهم، كملك الروم والعجم والقبط والحبش وغيرهم من ملوك الأطراف.

اطلع أهل عصر النبي على القرآن وحفظوه

ولما ورد ذلك مضاداً لأديان أهل ذلك العصر كلهم، ومخالفاً لوجوه اعتقاداتهم المختلفة في الكفر، وقف جميع أهل الخلاف على جملته، ووقف جميع أهل دينه الذي أكرمهم الله بالإيمان على جملته وتفاصيله، وتظاهر بينهم حتى حفظه الرجال، وتنقلت به الرحال، وتعلمه الكبير والصغير، إذ كان عمدة دينهم، وعلماً عليه، والمفروض تلاوته في صلواتهم، والواجب استعماله في أحكامهم، ثم تناقله خلف عن سلف، ثم مثلهم، في كثرتهم وتوفر دواعيهم على نقله، حتى انتهى إلينا ما وصفنا من حاله.

لا مجال للشك في القرآن

فلن يتشكك أحد، ولا يجوز أن يتشكك مع وجود هذه الأسباب، في أنه أتى بهذا القرآن من عند الله، فهذا أصل.

القرآن تحدى العرب

وإذا ثبت هذا الأصل وجوداً فإنا نقول: إنه تحداهم إلى أن يأتوا بمثله، وقرعهم على ترك الإتيان به طول السنين التي وصفناها، فلم يأتوا بذلك.

والذي يدل على هذا الأصل أنا قد علمنا أن ذلك مذكور في القرآن، في المواضع الكثيرة، كقوله: "وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبِ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأتُواْ بِسُورَةٍ مِن مِّثْلِهِ، وَادْعُواْ شَهدَاءَكُمِ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِن كُنْتُمْ صَادِقِينْ، فَإِن لَّم تَفْعَلُواْ وَلَنْ تَفْعَلُواْ فَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتي وَقُودُها النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ للِّكَافِرِينَ".

وكقوله: "أم يَقُولُونَ افتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُورٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ، وَادعُواْ مَن اسْتَطَعْتُم مِنْ دُونِ اللَّهِ إِن كُنتُم صَادِقِينَ. فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكُم فَاعْلَمُواْ أَنَّمَا أُّنْزِلَ بِعِلِمِ اللَّهِ وأَنْ لاَّ إلهَ إلاَّ هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُون".

فجعل عجزهم عن الإتيان بمثله دليلاً على أنه منه، ودليلاً على وحدانيته، وذلك يدل عندنا على بطلان قول من زعم أنه لا يمكن أن يعلم بالقرآن الوحدانية، وزعم أن ذلك مما لا سبيل إليه إلا من جهة العقل، لأن القرآن كلام الله عز وجل، ولا يصح أن يعلم الكلام حتى يعلم المتكلم أولاً.

فقلنا إذا ثبت بما نبينه إعجازه، وأن الخلق لا يقدرون عليه، ثبت أن الذي أتى به غيرهم، وأنه صدق، وإذا كان كذلك كان ما يتضمنه صدقاً، وليس إذا أمكن معرفته من جهة العقل امتنع أن يعرف من الوجهين. وليس الغرض تحقيق القول في هذا الفصل، لأنه خارج عن مقصود كلامنا، ولكنا ذكرناه من جهة دلالة الآية عليه.

ومن ذلك قوله عز وجل: " قُلْ لًّئِن اجْتَمَعَتِ الإنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أن يَأْتُواْ بِمثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُم لِبَعْضٍ ظَهيراً".

وقوله: " أمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لاَّ يُؤْمِنْونَ، فَلْيَأْتُواْ بِحَديثٍ مِّثْلِهِ إن كَانُواْ صادقين".

العرب لم تستجب للتحدي

فقد ثبت بما بيناه أنه تحداهم إليه، ولم يأتوا بمثله. وفي هذا أمران: أحدهما التحدي إليه، والآخر أنهم لم يأتوا له بمثل، والذي يدل على ذلك النقل المتواتر الذي يقع به العلم الضروري... فلا يمكن جحود واحد من هذين الأمرين.

اعتراضات على التحدي وإجابات عليها

وإن قال قائل: لعله لم يقرأ عليهم الآيات التي فيها ذكر التحدي، وإنما قرأ عليهم ما سوى ذلك من القرآن، كان كذلك قولاً باطلاً، يعلم بطلانه، مثل ما يعلم به بطلان قول من زعم: أن القرآن أضعاف هذا وهو يبلغ حمل جمل وأنه كتم وسيظهره المهدي.

أو يدعي أن هذا القرآن ليس هو الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم وإنما هو شيء وضعه عمر وعثمان رضي الله عنهما حيث وضع المصحف أو يدعي فيه زيادة أو نقصاناً.

ضمن الله حفظ كتابه

وقد ضمن الله حفظ كتابه أن يأتيه الباطل من بين يديه أو من خلفه، ووعده الحق. وحكاية قول من قال ذلك يغني عن الرد عليه، لأن العدد الذين أخذوا القرآن في الأمصار وفي البوادي وفي الأسفار والحضر، وضبطوه حفظاً من بين صغير وكبير، وعرفوه حتى صار لا يشتبه على أحد منهم حرف، لا يجوز عليهم السهو والنسيان، ولا التخليط فيه والكتمان، ولو زادوا ونقصوا أو غيروا لظهر.

لو حصل التبديل في شعر شاعر

لافتضح فكيف يحصل في القرآن:

وقد علمت أن شعر امرئ القيس وغيره لا يجوز أن يظهر ظهور القرآن، ولا أن يحفظ كحفظه، ولا أن يضبط كضبطه، ولا أن تمس الحاجة إليه مساسها إلى القرآن، لو زيد فيه بيت أو نقص منه بيت، لا بل لو غير فيه لفظ، لتبرأ منه أصحابه، وأنكره أربابه، فإذا كان ذلك مما لا يمكن شعر امرئ القيس ونظرائه مع أن الحاجة إليه تقع لحفظ العربية.

التبديل في القرآن لا يمكن أن يتم

فكيف يجوز أو يمكن ما ذكروه في القرآن مع شدة الحاجة إليه في أصل الدين، ثم في الأحكام والشرائع، واشتمال الهمم المختلفة على ضبطه، فمنهم من يضبطه لإحكام قراءته ومعرفة وجوهها وصحة أدائها، ومنهم من يحفظه للشرائع والفقه، ومنهم من يضبطه ليعرف تفسيره ومعانيه، ومنهم من يقصد بحفظه الفصاحة والبلاغة، ومن الملحدين من يحصله لينظر في عجيب شأنه.

كثرة المشتغلين في القرآن تمنع التغيير

وكيف يجوز على أهل هذه الهمم المختلفة، والآراء المتباينة، على كثرة أعدادهم، واختلاف بلادهم، وتفاوت أغراضهم، أن يجتمعوا على التغيير والتبديل والكتمان?.. ويبين ذلك أنك إذا تأملت ما ذكر في أكثر السور، مما بيناه ومن نظائره، في رد قومه عليه ورد غيرهم، وقولهم. " لَوْ نَشَاء لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا"، وقول بعضهم: " إِنْ هَذَا إلاَّ اخْتِلاقٌ".

إلى الوجوه التي يصرف إليها قولهم في الطعن عليه: فمنهم من يستهين بها ويجعل ذلك سبباً لشركه الإتيان بمثله، ومنهم من يزعم أنه مفترى فلذلك لا يأتي بمثله، ومنهم من يزعم أنه دارس وأنه أساطير الأولين.

كراهية التطويل تمنعنا من ذكر آيات التحدي كلها

وكرهنا أن نذكر كل آية تدل على تحديه، لئلا يقع التطويل، ولو جاز أن يكون بعضه مكتوماَ جاز على كله، ولو جاز أن يكون بعضه موضوعاً جاز ذلك في كله.. فثبت بما بيناه أنه تحدى إليه.. وإنهم لم يأتوا له بمثل، وفي هذا الفصل قد بينا أن الجميع قد ذكروه وبنوا عليه، فإذا ثبت هذا وجب أن يعلم بعده أن تركهم للإتيان بمثله كان لعجزهم عنه.

الدليل على عجز العرب عن الإتيان بمثل القرآن

والذي يدل على أنهم كانوا عاجزين عن الإتيان بمثل القرآن أنه تحداهم إليه حتى طال التحدي، وجعله دلالة على صدقه ونبوته، وتضمن أحكامه استباحة دمائهم وأموالهم وسبي ذريتهم.. فلو كانوا يقدرون على تكذيبه لفعلوا، وتوصلوا إلى تخليص أنفسهم وأهليهم وأموالهم من حكمه، بأمر قريب هو عادتهم في لسانهم، ومألوف من خطابهم، وكان ذلك يغنيهم عن تكلف القتال، وإكثار المراء والجدال، وعن الجلاء عن الأوطان، وعن تسليم الأهل والذرية للسبي.. فلما لم يحصل هناك معارضة منهم، علم أنهم عاجزون عنها.

العدو يقصد لدفع قول عدوه بكل ما يقدر

يبين ذلك أن العدو يقصد لدفع قول عدوه بكل ما قدر عليه من المكايد، لاسيما مع استعظامه ما أبدعه بالمجيء من خلع آلهته، وتسفيه رأيه في ديانته، وتضليل آبائه، والتغريب عليه بما جاء به، وإظهار أمر يوجب الانقياد لطاعته، والتصرف على حكم إرادته، والعدول عن إلفه وعادته، والانخراط في سلك الاتباع بعد أن كان متبوعاً، والتشييع بعد أن كان مشيعاً، وتحكيم الغير في ماله، وتسليطه إياه على جملة أحواله، والدخول تحت تكاليف شاقة، وعبادات متعبة، بقوله.

بذلوا السيف والمال فكيف لا يردون عليه باللسان

وقد علم أن بعض هذه الأحوال مام يدعو إلى سلب النفوس دونه.. هذا والحمية حميتهم، والهمم الكبيرة هممهم، وقد بذلوا له السيف وأخطروا بنفوسهم وأموالهم، فكيف يجوز أن لا يتوصلوا إلى الرد عليه، وإلى تكذيبه بأهون سعيهم ومألوف أمرهم، وما يمكن تناوله من غير أن يعرق فيه جبين أو يشتغل به خاطر، وهو لسانهم الذي يتخاطبون به، مع بلوغهم في الفصاحة النهاية التي ليس وراءها مطلع، والرتبة التي ليس وراءاها منزع.

لو عارضوه لوهن أمره

ومعلوم أنهم لو عارضوه بما تحداهم إليه لكان فيه توهين أمره، وتكذيب قوله، وتفريق جمعه، وتشتيت أسبابه، وكان من صدق به يرجع على أعقابه، ويعود في مذهب أصحابه، فلما لم يفعلوا شيئاً من ذلك مع طول المدة، ووقع الفسحة، وكان أمره يتزايد حالاً فحالاً، ويعلو شيئاً فشيئاً، وهم على العجز عن القدح في آيته، والطعن في دلالته.

كانوا لا يقدرون على معارضته

علم مما بينا أنهم كانوا لا يقدرون على معارضته، ولا على توهين حجته، وقد أخبر الله تعالى عنهم أنهم قوم خصمون، وقال: "وَتُنْذِرَ بِهِ قَوماً لُدّاً"، وقال: "خَلَقَ الإنْسَانَ مِن نٌطْفَةٍ فإِذَا هُوَ خَصيمٌ مُبينٌ".

وعلم أيضاً أن ما كانوا يقولونه من وجوه اعتراضهم على القرآن، مما حكى الله عز وجل عنهم، من قولهم: "لَوْ نَشَاءُ لُقُلنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأَّوَّلينَ".

وقولهم: "مَا هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُفْتَرىً وَمَا سَمِعْنَا بِهَذا في آبائِنَا الأَّوَّلينَ".

وقالوا: "يَا أَيُّها الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ".

وقالوا: "أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ".

وقالوا: "أَئِنَّا لَتَارِكُواْ آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَّجْنُونٍ"، "وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ هّذَا إِلاَّ إِفْكٌ افْتَراهُ، وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرونَ، فَقَدْ جَاءُوا ظُلْماً وَزُوراً"، "وَقَالُواْ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاُ"، "وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَّسْحُوراً".

وقوله: "الَّذِينَ جَعَلُواْ القُرآنَ عِضِيَن"، إلى آيات كثيرة في نحو هذا تدل على أنهم كانوا متحيرين في أمرهم، متعجبين من عجزهم، يفزعون إلى نحو هذه الأمور، من تعليل وتعذير، ومدافعة بما وقع التحدي إليه، وعرف الحث عليه .

طالبوا بمعجزات غير الفصاحة

وقد علم منهم أنهم ناصبوه الحرب، وجاهروه ونابذوه، وقطعوا الأرحام، وأخطروا بأنفسهم، وطالبوه بالآيات والإتيان بغير ذلك من المعجزات، يريدون تعجيزه، ليظهروا عليه بوجه من الوجوه، فكيف يجوز أن يقدروا على معارضته القريبة السهلة عليهم، وذلك حجته، ويفسد دلالته، ويبطل أمره، فيعدلون عن ذلك إلى سائر ما صاروا إليه، من الأمور التي ليس مزيد في المنابذة والمعاداة ويتركون الأمر الخفيف? هذا ما يمتنع وقوعه في العادات، ولا يجوز اتفاقه من العقلاء.

لو كانوا قادرين على المعارضة لم يجز لهم تركها

وإلى هذا قد استقصى أهل العلم الكلام، وأكثروا في هذا المعنى وأحكموه. ويمكن أن يقال إنهم لو كانوا قادرين على معارضته، والإتيان بمثل ما أتى به، لم يجز أن يتفق منهم ترك المعارضة، وهم على ما هم عليه من الذرابة والسلاقة والمعرفة بوجوه الفصاحة، وهو يستطيل عليهم بأنهم عاجزون عن مباراته، وأنهم يضعفون عن مجاراته، ويكرر فيما جاء به ذكرهم عجزهم عن مثل ما يأتي به ويقرّعهم ويؤنبهم عليه، ويدرك آماله فيهم، وينجح ما يسعى له بتركهم المعارضة، وهو يذكر فيما يتلوه تعظيم شأنه، وتفخيم أمره، حتى يتلو قوله تعالى: "قُلْ لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنْسُ وَالجِنُّ عَلَى أَن يَأَتُوا بِمِثْلِ هَذَا القُرْآنِ لاَ يأْتُونَ بِمثْلِهِ، وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهيراً".

وقوله: "يُنَزّلُ المَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ، عَلَى مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ، أَنْ أَنذِرُواْ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنا، فَاتَّقُونِ".

وقوله: "وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعاً مِن الْمَثانِي وَالْقُرآنَ الْعَظِيمَ".

وقوله: "إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ".

وقوله: "وَإِنَّهُ لَذِكرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوفَ تُسْئَلُونَ" وقوله: "هُدىً لّلْمُتَّقِينَ".

وقوله: "اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُّتَشَابِهاً، مَّثَانِيَ، تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يُخْشَوْنَ رَبَّهُمْ، ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ"، إلى غير ذلك من الآيات، التي تتضمن تعظيم شأن القرآن، مما يدعوهم في السورة في مواضع منها، ومنها ما ينفرد فيها، وذلك مما يدعوهم إلى المباراة، ويحضهم على المعارضة، وإن لم يكن متحدياً إليه.

??كانوا ينافرون شعراءهم لأنهم يقدرون

ألا ترى أنهم قد كان ينافر شعراؤهم بعضهم بعضاً، ولهم في ذلك مواقف معروفة، وأخبار مشهورة، وأيام منقولة، وكانوا يتنافسون على الفصاحة والخطابة والذلاقة، ويتبجحون بذلك، ويتفاخرون بينهم، فلن يجوز والحالة هذه أن يتغافلوا عن معارضته لو كانوا قادرين عليها، تحداهم إليها أو لم يتحدهم، ولو كان هذا القبيل ما يقدر عليه البشر لوجب في ذلك أمر آخر، وهو أنه لو كان مقدرواً للعباد لكان قد اتفق إلى وقت مبعثه من هذا القبيل ما كان يمكنهم أن يعارضوه به، وكانوا لا يفتقرون إلى تكلف وضعه، وتعمل نظمه في الحال.

لما لم نرهم عارضوه علم أنه لا سبيل إلى ذلك

فلما لم نرهم احتجوا عليه بكلام سابق، وخطبة متقدمة، ورسالة سالفة، ونظم بديع، ولا عارضوه به، فقالوا هذا أفصح مما جئت به، وأغرب منه، أو هو مثله، علم أنه لم يكن إلى ذلك سبيل، وأنه لو يوجد له نظير، ولو كان يوجد له مثل لكان ينقل إلينا ولعرفناه، كما نقل إلينا أشعار أهل الجاهلية، وكلام الفصحاء والحكماء من العرب، وأدى إلينا كلام الكهان وأهل الرجز والسجع والقصيد، وغير ذلك من أناوع بلاغاتهم، وصنوف فصاحاتهم.

فإن قيل: الذي بنى عليه الأمر في تثبيت معجزة القرآن أنه وقع التحدي إلى الإتيان بمثله، وأنهم عجزوا عنه بعد التحدي إليه.

فإذا نظر الناظر، وعرف وجه النقل المتواتر في هذا الباب، وجب له العلم بأنهم كانوا عاجزين عنه، وما ذكرتهم يوجب سقوط تأثير التحدي، وإن ما أتى به قد عرف العجز عنه بكل حال...

????????????????????????احتيج إلى التحدي لإقامة الحجة

قيل: إنما احتيج إلى التحدي لإقامة الحجة، وإظهار وجه البرهان، لأن المعجزة إذا ظهرت فإنما تكون حجة بأن يدعيها من ظهرت عليه، ولا تظهر على مدعٍ لها إلا وهي معلومة أنها من عند الله.

فإذا كان يظهر وجه الإعجاز فيها للكافة بالتحدي وجب فيها التحدي، لأنه تزول بذلك الشبهة على الكل، وينكشف للجميع أن العجز واقع عن المعارضة، وإلا فإن مقتضى ما قدمناه من الفصل أن من كان يعرف وجوه الخطاب، ويتقن مصارف الكلام، وكان كاملاً في فصاحته، جامعاً للمعرفة بوجوه الصناعة، لو أنه احتج عليه بالقرآن، وقيل له إن الدلالة على النبوة، والآية على الرسالة، ما أتلوه عليك منه لكان ذلك بلاغاً في إيجاب الحجة، وتماماً في إلزامه فرض المصير إليه.

الأكثرون لما ألزمهم إعجازه أسلموا

ومما يؤكد هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم قد دعا الآحاد إلى الإسلام، محتجاً عليهم بالقرآن، لأنا نعلم أنه لم يلزمهم تصديقه تقليداً، ونعلم أن السابقين الأولين إلى الإسلام لم يقلدوه، وإنما دخلوا على بصيرة، ولم نعلمه قال لهم: إرجعوا إلى جميع الفصحاء، فإن عجزوا عن الإتيان بمثله فقد ثبتت حجتي، بل لما رآهم يعلمون إعجازه ألزمهم حكمه فقبلوه، وتابعوا الحق وبادروا إليه مستسلمين، ولم يشكوا في صدقه، ولم يرتابوا في وجه دلالته، فمن كانت بصيرته أقوى، ومعرفته أبلغ، كان إلى القبول منه أسبق، ومن اشتبه عليه وجه الإعجاز، واشتبه عليه بعض شروط المعجزات، وأدلة النبوات، كان أبطأ إلى القبول، حتى تكاملت أسبابه، واجتمعت له بصيرته، وترادفت عليه مواده.

تفاوت الناس في إدراك القرآن ومعرفة وجه دلالته

وهذا فصل يجب أن يتم القول فيه بعد، فليس هذا وضع له... ويبين ما قلناه أن هذه الآية علم، يلزم الكل قبوله، والانقياد له، وقد علمنا تفاوت الناس في إدراكه ومعرفة وجه دلالته، لأن الأعجمي لا يعلم أنه معجز إلا بأن يعلم عجز العرب عنه؛ وهو يحتاج في معرفة ذلك إلى أمور لا يحتاج إليها من كان من أهل صنعة الفصاحة.

من عرف عجز أهل الصنعة لزمته الحجة

فإذا عرف عجز أهل الصنعة حل محلهم، وجرى مجراهم، في توجه الحجة عليه، وكذلك لا يعرف المتوسط من أهل اللسان من هذا الشأن ما يعرفه العالي في هذا الصنعة، فربما حل في ذلك محل الأعجمي، في أن لا تتوجه عليه الحجة حتى يعرف عجز المتناهي في الصنعة عنه. وكذلك لا يعرف المتناهي في معرفة الشعر وحده، أو الغاية في معرفة الخطب أو الرسائل وحدهما، غور هذا الشأن ما يعرف من استكمل معرفة جميع تصاريف الخطاب ووجوه الكلام، وطرق البراعة. فلا تكون الحجة قائمة على المختص ببعض هذه العلوم بانفرادها دون تحققه بعجز البارع في هذه العلوم كلها عنه.

من كان متناهياً في معرفة وجوه الخطابة عرف إعجاز القرآن

فأما من كان متناهياً في معرفة وجوه الخطاب، وطرق البلاغة، والفنون التي يمكن فيها إظهار الفصاحة، فهو متى سمع القرآن عرف إعجازه، وإن لم نقل ذلك أدى هذا القول إلى أن يقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعرف إعجاز القرآن حين أوحي إليه حتى سبر الحال بعجز أهل اللسان عنه. وهذا خطأ من القول... فصح من هذا الوجه أن النبي صلى الله عليه وسلم حين أوحي إليه القرآن عرف كونه معجزاً، وبأن قيل له إنه دلالة وعلم على نبوتك.... إنه كذلك من قبل أن يقرأه على غيره، أو يتحدى إليه سواه.

ولذلك قلنا إن المتناهي في الفصاحة والعلم بالأساليب التي يقع فيها التفاصح، متى سمع عرف أنه معجز، لأنه يعرف من حال نفسه أنه لا يقدر عليه، ويعرف من حال غيره مثل ما يعرف من حال نفسه، فيعلم أن عجز غيره كعجزه هو، وإن كان يحتاج بعد هذا استدلال آخر على أنه علم على نبوة ودلالة على رسالة، بأن يقال له إن هذه آية لنبيه، وإنها ظهرت عليه وادعاها معجزة له وبرهاناً على صدقه.

اعتراض وردٌّ عليه

فإن قيل: فإن من الفصحاء من يعلم عجز نفسه عن قول الشعر، ولا يعلم مع ذلك عجز غيره عنه، فكذلك البليغ، وإن علم عجز نفسه عن مثل القرآن فهو قد يخفى عليه عجز غيره... قيل: هو مع مستقر العادة، وإن عجز عن قول الشعر، وعلم أنه مفحم، فإنه يعلم أن الناس لا ينفكون من وجود الشعراء فيهم.

?????متى علم البليغ عجزه عن القرآن علم عجز غيره

ومتى علم البليغ المتناهي في صنوف البلاغات عجزه عن القرآن علم عجز غيره، لأنه كهو، لأنه يعلم أن حاله وحال غيره في هذا الباب سواء، إذ ليس في العادة مثل للقرآن يجوز أن يعلم قدرة أحد من البلغاء عليه، فإذا لم يكن لذلك مثل في العادة، وعرف هذا الناظر جميع أساليب الكلام، وأنواع الخطاب، ووجد القرآن مبايناً لها، علم خروجه عن العادة، وجرى مجرى ما يعلم أن إخراج اليد البيضاء من الجيب خارج عن العادات، فهو لا يجوزه عن نفسه، وكذلك لا يجوز وقوعه من غيره إلا من وجه نقض العادة، بل يرى وقوعه موقع المعجزة.

وهذا وإن كان يفارق فلق البحر وإخراج اليد البيضاء ونحو ذلك، من وجه، وهو أنه يستوي الناس في معرفة عجزهم عنه، فكونه ناقضاً للعادة من غير تأمل شديد ولا نظر بعيد.

النظر في إعجاز القرآن يحتاج إلى تأمل

فإن النظر في معرفة إعجاز القرآن يحتاج إلى تأمل، ويفتقر إلى مراعاة مقدمات، والكشف عن أمور، نحن ذاكروها بعد هذا الموضع، فكل واحد منها يؤول إلى مثل حكم صاحبه في الجمع الذي قدمنا.

ومعنا يبين ذلك ما قلناه، من أن البليغ المتناهي في وجوه الفصاحة يعرف إعجاز القرآن، وتكون معرفته حجة عليه إذا تحدى إليه وعجز عن مثله، وإن لم ينتظر وقوع التحدي في غيره.

جبير بن مطعم أسلم لما سمع سورة الطور

وما الذي يصنع في ذلك الغير وهو ما روي في الحديث أن جبير بن مطعم ورد على النبي صلى الله عليه وسلم في معنى حليف له أراد أن يفاديه، فدخل والنبي صلى الله عليه وسلم يقرأ سورة: "وَالطُّورِ وَكِتَابٍ مَّسْطُورٍ" في صلاة الفجر، قال: فلما انتهى إلى قوله: "إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ، مَّا لَهُ مِنْ دَافِعٍ"، قال: خشيت أن يدركني العذاب. فأسلم. وفي حديث آخر: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه سمع سورة طه فأسلم.

عتبة بن ربيعة يسمع آية العذاب فيثب

وقد رُوي أن قوله عز وجل في أول "حم السجدة" إلى قوله: "فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُم فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ"، نزلت في شيبة وعتبة ابني ربيعة، وأبي سفيان بن حرب، وأبي جهل. وذكر أنهم بعثوا هم وغيرهم من وجوه قريش بعتبة بن ربيعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليكلمه، وكان حسن الحديث، عجيب الشأن، بليغ الكلام، وأرادوا أن يأتيهم بما عنده، فقرأ النبي صلى الله عليه وسلم سورة حم السجدة من أولها، حتى انتهى إلى قوله: "فَإِنْ أَعْرَضُواْ فَقُلْ أَنْذَرْتُكُم صَاعِقةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ"، فوثب مخافة العذاب، فاستحكوه ما سمع، فذكر أنه لم يسمع مثله كلمة واحدة، ولا اهتدى لجوابه، ولو كان ذلك من جنس كلامهم لم يخف عليه وجه الاحتجاج والرد، فقال له عثمان بن مظعون: لتعلموا أنه من عند الله، إذ لم يهتد لجوابه.

سماع القرآن حجة

وأبين من ذلك قول الله عز وجل: "وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكينَ استَجَارَكَ فَأَجِرْهُ، حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللّهِ، ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ"، فجعل سماعه حجة عليه بنفسه فدل على أن فيهم من يكون سماعه إياه حجة عليه.

صوارف كفار العرب عن الإسلام كثيرة

فإن قيل؛ لو كان على ما قلتهم لوجب أن يكون حال الفصحاء الذين كانوا في عصر النبي صلى الله عليه وسلم على طريقة واحدة في إسلامهم عند سماعه.

قيل: لا يجب ذلك، لأن صوارفهم كانت كثيرة: منها أنهم كانوا يشكّون: منهم من يشك في إثبات الصانع، ومنهم من يشك في التوحيد، ومنهم من يشك في النبوة، ألا ترى أن أبا سفيان بن حرب لما جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ليسلم، عام الفتح، قال له النبي عليه السلام: "أما آن لك أن تشهد أن لا إله إلا الله، قال: بلى، فشهد، قال: "أما آن لك أن تشهد أني رسول الله?" قال: أما هذه ففي النفس منها شيء.

من قلْت شكوكه وتأمل الحجة أسلم

فكانت وجوه شكوكهم مختلفة، وطرق شبههم متباينة، فمنهم من قلْت شبهه، وتأمل الحجة حق تأملها، ولم يستكبر، فأسلم، ومنهم من كثرت شبهه، وأعرض عن تأمل الحجة حق تأملها، أو لم يكن في البلاغة على حدود النهاية، فتطاول عليه الزمان إلى أن نظر واستبصر، وراعى واعتبر، واحتاج إلى أن يتأمل عجز غيره عن الإتيان بمثله، فلذلك وقف أمره، ولو كانوا في الفصاحة على مرتبة واحدة، وكانت صوارفهم وأسبابهم متفقة، لتوافوا إلى القبول جملة واحدة.

كيف يعرف البليغ إعجاز القرآن

فإن قيل: فكيف يعرف البليغ الذي وصفتموه إعجاز القرآن? وما الوجه الذي يتطرق به إليه، والمنهاج الذي يسلكه، حتى يقف به على جلية الأمر فيه? قيل: هذا سبيله أن يفرد له فصل.....

اعترض بعضهم فقال البلغاء لم يعجزوا ولكن الله صرفهم

فإن قيل: فلمَ زعمتم أن البلغاء عاجزون عن الإتيان بمثله، مع قدرتهم على صنوف البلاغات، وتصرفهم في أجناس الفصاحات? وهلاّ قلتم: إن من قدر على جميع هذه الوجوه البديعة، وتوجه من هذه الطرق الغريبة، كان على مثل نظم القرآن قادراً، وإنما يصرفه الله عنه ضرباً من الصرف، أو يمنعه من الإتيان بمثله ضرباً من المنع، أو تقصر دواعيه مع قدرته عليه، ليتكامل ما أراده الله من الدلالة، ويحصل ما قصده من إيجاب الحجة، لأن من قدر على نظم كلمتين بديعتين لم يعجز عن نظم مثلهما، وإذا قدر على ذلك قدر على ضم الثانية إلى الأولى، وكذلك الثالثة، حتى يتكامل قدر الآية والسورة.

الجواب على الاعتراض

فالجواب: أنه لو صح ذلك ، صح لكل من أمكنه نظم ربع بيت، أو مصراع من بيت، أن ينظم القصائد، ويقول الأشعار... وصح لكل ناطق، قد يتفق في كلامه الكلمة البديعة، نظم الخطب البليغة، والرسائل العجيبة، ومعلوم أن ذلك غير سائغ، ولاممكن...

على أن ذلك لو لم يكن معجزاً على ما وصفناه من جهة نظمه الممتنع لكان مهما حط من رتبة البلاغة فيه، ووضع من مقدار الفصاحة في نظمه، أبلغ في الأعجوبة، إذ صرفوا عن الإتيان بمثله، ومنعوا عن معارضته، وعدلت دواعيهم عنه، فكان يستغني عن إنزاله على النظم البديع، وإخراجه في المعرض الفصيح العجيب. على أنه لو كانوا صرفوا على ما ادعاه، لم يكن من قبلهم من أهل الجاهلية مصروفين عما كان يعدل به في الفصاحة والبلاغة، وحسن النظم، وعجيب الرصف، لأنهم لم يتحدوا إليه، ولم تلزمهم حجته... فلما لم يوجد في كلام من قبله مثله، علم أن ما ادعاه القائل بالصرفة ظاهر البطلان.

جواب آخر

وفيه معنى آخر: وهو أن أهل الصنعة في هذا الشأن إذا سمعوا كلاماً مطمعاً لم يخف عليهم، ولم يشتبه لديهم، ومن كان متناهياً في فصاحته لم يجز أن يطمع في مثل هذا القرآن بحال.

فإن قال صاحب السؤال: إنه قد يطمع في ذلك. قيل له: أنت تزيد على هذا، فتزعم أن كلام الآدمي قد يضارع القرآن وقد يزيد عليه في الفصاحة، ولا يتحاشاه، ويحسب أن ما ألفه في الجزء والطفرة هو أبدع وأغرب من القرآن لفظاً ومعنى، ولكن ليس الكلام على ما يقدره مقدر في نفسه، ويحسبه ظان من أمره، والمرجوع في هذا إلى جملة الفصحاء، دون الآحاد.

ونحن نبين بعد هذا وجه امتناعه عن الفصيح البليغ، وتميزه في ذلك عن سائر أجناس الخطاب، ليعلم أن ما يقدره من مساواة كلام الناس به تقدير ظاهر الخطأ، بيِّن الغلط، وإن هذا التقدير من جنس من حكى الله تعالى في محكم كتابه: "إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ، فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ، ثُمَّ قُتَلَ كَيْفَ قَدَّرَ، ثُمَّ نَظَرَ، ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ، ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ، فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ، إِنْ هَذَا إِلاَّ قَوْلُ الْبَشَرَ".

فهم يعبرون عن دعواهم أنهم يمكنهم أن يقولوا مثله بأن ذلك من قول البشر، لأن ما كان من قولهم فليس يقع في التفاصيل إلى الحد الذي يتجاوز إمكان معارضته.

بطلان القول بالصرفة

ومما يبطل ما ذكروه من القول بالصرفة: أنه لو كانت المعارضة ممكنة وإنما منع منها الصرفة لم يكن الكلام معجزاً، وإنما يكون المنع معجزاً؛ فلا يتضمن الكلام فضيلة على غيره في نفسه.

وليس هذا بأعجب مما ذهب إليه فريق منهم: أن الكل قادرون على الإتيان بمثله، وإنما يتأخرون عنه لعدم العلم بوجه ترتيب ، لو تعلموه لوصلوا إليه به.

ولا بأعجب من قول فريق منهم: إنه لا فرق بين كلام البشر، وكلام الله تعالى في هذا الباب، وإنه يصح من كل واحد منهما الإعجاز على حد واحد.

التوراة والإنجيل والصحف ليست معجزة في النظم

فإن قيل: فهل تقولون بأن غير القرآن من كلام الله عز وجيل معجز: كالتوراة والإنجيل والصحف? قيل: ليس شيء من ذلك بمعجز في النظم والتأليف. وإن كان معجزاً كالقرآن فيما يتضمن من الأخبار بغيوب، وإنما لم يكن معجزاً لأن الله تعالى لم يصفه بما وصف به القرآن، ولأنا قد علمنا أنه لم يقع التحدي إليه كما، وقع التحدي إلى القرآن.

وهي ليست معجزة لمعنى آخر

ولمعنى آخر وهو أن ذلك اللسان لا يتأتى فيه من وجوه الفصاحة ما يقع به التفاضل الذي ينتهي إلى حد الإعجاز، ولكنه يتقارب. وقد رأيت أصحابنا يذكرون هذا في سائر الألسنة، ويقولون ليس يقع فيها من التفاوت ما يتضمن التقديم العجيب.

بيان انفراد العربية بالإعجاز

ويمكن بيان ذلك بأنا لا نجد في القدر الذي نعرفه من الألسنة للشيء الواحد من الأسماء ما تعرف من اللغة العربية، وكذلك لا نعرف فيها الكلمة الواحدة تتناول المعاني الكثيرة على ما تتناوله العربية، وكذلك التصرف في الاستعارات والإشارات ووجوه الاستعمالات البديعة التي يجيء تفصيلها بعد هذا.

وصف الله القرآن بأنه بلسان عربي

ويشهد لذلك من القرآن أن الله تعالى وصفه بأنه: "بِلسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ"، وكرر ذلك في مواضع كثيرة، وبين أنه رفعه عن أن يجعله أعجمياً، فلو كان في لسان العجم إيراد مثل فصاحته لم يكن ليرفعه عن هذه المنزلة، وإنه وإن كان يمكن أن يكون من فائدة قوله إنه "عربي مبين" أنه مما يفهمونه، ولا يفتقرون فيه إلى الرجوع إلى غيرهم، ولا يحتاجون في تفسيره إلى من سواهم، فلا يمتنع أن يفيد ما قلنا أيضاً، كما أفاد بظاهره ما قدمناه.

من عرف العربية وغيرها أدرك العربية بالفصاحة

ويبين ذلك أن كثيراً من المسلمين قد عرفوا تلك الألسنة، وهم من أهل البراعة فيها في العربية، فقد وقفوا على أنه ليس يقع فيها من التفاضل والفصاحة ما يقع في العربية.

أهل التوراة والإنجيل لم يدعوا الإعجاز لكتابهم

ومعنى آخر: وهو إنا لم نجد أهل التوراة والإنجيل ادعوا الإعجاز لكتابهم، ولا ادعى لهم المسلمون، فعلم أن الإعجاز مما يختص به القرآن... ويبين هذا أن الشعر لا يتأتى في تلك الألسنة على ما قد اتفق في العربية، وإن كان قد يتفق منها صنف أو أصناف ضيقة، لم يتفق فيها من البديع ما يمكن ويتأتى في العربية، وكذلك لا يتأتى في الفارسية جميع الوجوه التي يتبين فيها الفصاحة على ما يأتي في العربية.

زعم بعضهم أن كتاب زرداشت وماني معجزان

فإن قيل: فإن المجوس تزعم أن كتاب زرداشت وكتاب ماني معجزان... قيل: الذي يتضمنه كتاب ماني من طريق النيرنجات وضروب من الشعوذة، ليس يقع فيها إعجاز. ويزعمون أن في الكتاب الحكم، وهي حكم منقولة متداولة على الألسن لا تختص بها أمة دون أمة، وإن كان بعضهم أكثر اهتماماً بها، وتحصيلاً لها، وجمعاً لأبوابها.

ادعى بعضهم أن ابن المقفع عارض القرآن

وقد ادعى قوم أن ابن المقفع عارض القرآن، وإنما فزعوا إلى الدرة اليتيمة وهما كتابان: أحدهما يتضمن حكماً منقولة، توجد عند حكماء كل أمة مذكورة بالفضل، فليس فيها شيء بديع من لفظ ولا معنى، والآخر: في شيء من الديانات، وقد تهوس فيه بما لا يخفى على متأمل.

وكتابه الذي بيناه في الحكم منسوخ من كتاب بزرجمهر في الحكمة، فأي صنع له في ذلك، وأي فضيلة حازها فيما جاء به?

لا يوجد لابن المقفع كتاب يدعي مدع

أنه عارض القرآن

وبعد فليس يوجد له كتاب يدعى مدع انه عارض فيه القرآن، بل يزعمون أنه اشتغل بذلك مدة ثم مزق ما جمع واستحيا لنفسه من إظهاره، فإن كان كذلك فقد أصاب، وأبصر القصد. ولا يمتنع أن يشتبه عليه الحال في الابتداء، ثم يلوح له رشده، ويبين له أمله، ويتكشف له عجزه، ولو كان بقي على اشتباه الحال عليه لم يخف علينا موضع غفلته، ولم يشتبه لدينا وجه شبهته... ومتى أمكن أن تدعي الفرس في شيء من كتبهم أنه معجز في حسن تأليفه وعجيب نظمه?

الفصل الثالث

في جملة وجوه إعجاز القرآن

ذكر أصحابنا وغيرهم في ذلك ثلاثة أوجه من الإعجاز:

الإخبار عن الغيوب

أحدهما يتضمن الإخبار عن الغيوب، وذلك مما لا يقدر عليه البشر، ولا سبيل إليه.

فمن ذلك ما وعد الله تعالى نبيه عليه السلام أنه سيظهر دينه على الأديان، بقوله عزّ وجلّ: "هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالهُدَى وَدِينِ الْحقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ" ففعل ذلك.

كان أبو بكر يُعرِّف الجيوش ما وعدهم الله من النصر

وكان أبو بكر الصديق رضي الله عنه إذا أغزى جيوشه عرّفهم ما وعدهم الله من إظهار دينه. ليثقوا بالنصر، ويستيقنوا بالنجح.

وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يفعل كذلك في أيامه، حتى وقف أصحاب جيوشه عليه.

فكان سعد بن أبي وقاص رحمه الله وغيره من أمراء الجيوش من جهته يذكر لأصحابه، ويحرضهم به ويوثق لهم، وكانوا يلقون الظفر في موجهاتهم، حتى فتح إلى آخر أيام عمر رضي الله عنه إلى بلخ وبلاد الهند، وفتح في أيامه مرووالشاهجان، ومرو الروذ، ومنعهم من العبور بجيحون.

حقّق الله الوعد وفُتحت البلدان

وكذلك فتح في أيامه فارس إلى اصطخر وكران ومكران وسجستان، وجميع ما كان من مملكة كسرى، وكل ما كان بملكه ملوك الفرس بين البحرين، من الفرات إلى جيحون: وأزال ملك ملوك الفرس، فلم يعد إلى اليوم، ولا يعود أبداً إن شاء الله تعالى، ثم إلى حدود أرمينية وإلى باب الأبواب...

وفتح ناحية الشام والأردن وفلسطين وفسطاط مصر، وأزال ملك قيصر عنها، وذلك من الفرات إلى بحر مصر، وهو ملك قيصر.

وغزت الخيول في أيامه إلى عمورية فأخذ الضواحي كلها، ولم يبق دونها إلا ما حجز دونه بحر، أو حال عنه جبل منيع، أو أرض خشنة، أو بادية غير مسلوكة.

وعد الله المؤمنين بالغلبة والكفار بالنار

وقال الله عز وجل: "قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ سَتُغْلَبُون وَتُحْشَرُونَ إِلى جَهَنَّمَ. وَبِئْسَ الْمِهَادُ". فصدق فيه، وقال في أهل بدر: " وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَينِ أَنَّها لَكُم"، ووفى لهم بما وعد.

وجميع الآيات التي يتضمنها القرآن من الأخبار عن الغيوب يكثر جداً، وإنما أردنا أن ننبه بالبعض على الكل.

النبي الأمي أتى بأمور لا يمكن أن يعرفها لوحده

والوجه الثاني أنه كان معلوماً من حال النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان أمياً لا يكتب ولا يحسن أن يقرأ. وكذلك كان معروفاً من حاله أنه لم يكن يعرف شيئاً من كتب المتقدمين وأقاصيصهم وأنبائهم وسيرهم، ثم أتى بجملة ما وقع وحدث من عظيمات الأمور، ومهمات السير، من حين خلق الله آدم عليه السلام إلى حين مبعثه.

ذكر النبي الأمي أموراً تاريخية

فذكر في الكتاب الذي جاء به معجزة له قصة آدم عليه السلام وابتداء خلقه وما صار إليه أمره من الخروج من الجنة. ثم جملاً من أمر ولده وأحواله وتوبته.

ثم ذكر قصة نوح عليه السلام وما كان بينه وبين قومه وما انتهى إليه أمره، وكذلك أمر إبراهيم عليه السلام، إلى ذكر سائر الأنبياء المذكورين في القرآن. والملوك والفراعنة الذين كانوا في أيام الأنبياء صلوات الله عليهم.

لا سبيل إلى معرفة ما ذكره إلا بالعلم والنبوة

ونحن نعلم ضرورة أن هذا مما لا سبيل إليه إلا عن تعلم، وإذا كان معروفاً أنه لم يكن ملابساً لأهل الآثار وحملة الأخبار، ولا متردداً إلى التعلم منهم، ولا كان ممن يقرأ فيجوز أن يقع إليه كتاب فيأخذ منه، علم أنه لا يصل ذلك إلا بتأييد من جهة الوحي، ولذلك قال عز وجل: " وَمَا كُنْتَ تَتْلُواْ مِنْ قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ، وَلاَ تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ، إذاً لاَّرْتَابَ الْمُبْطلونَ".

وقال " وَكَذلِكَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ وَلِيَقُولُواْ دَرَسْتَ"...

من تعلم لم يخف على الناس فعله

وقد بينا أن من كان يختلف إلى تعلم علم، ويشتغل بملابسة أهل صنعة، لم يخف على الناس أمره، ولم يختلف عندهم مذهبه، وقد كان يعرف فيهم من يحسن هذا العلم وإن كان نادراً، وكذلك كان يعرف من يختلف إليه للتعليم، وليس يخفى في العرف عالم كل صنعة ومتعلمها، فلو كان منهم لم يخف أمره.

القرآن بديع النظم عجيب التأليف

والوجه الثالث أنه بديع النظم، عجيب التأليف، متناه في البلاغة إلى الحد الذي يعلم عجز الخلق عنه، والذي أطلقه العلماء هو على هذه الجملة.

ونحن نفصل ذلك بعض التفصيل، ونكشف الجملة التي أطلقوها... فالذي يشتمل عليه بديع نظمه المتضمن للإعجاز وجوه:

نظم القرآن خارج عن نظام كلام العرب

منها ما يرجع إلى الجملة، وذلك أن نظم القرآن على تصرف وجوهه، خارج عن المعهود من نظام جميع كلامهم، ومباين للمألوف من ترتيب خطابهم. وله أسلوب يختص به ويتميز في تصرفه عن أساليب الكلام المعتاد.

وذلك أن الطرق التي يتقيد بها الكلام البديع المنظوم تنقسم إلى أعاريض الشعر على اختلاف أنواعه، ثم إلى أنواع الكلام الموزون غير المقفى، ثم إلى أصناف الكلام المعدل المسجع، ثم إلى معدل موزون غير مسجع، ثم إلى ما يرسل إرسالاً فتطلب فيه الإصابة والإفادة وإفهام المعاني المعترضة، على وجه بديع، وترتيب لطيف، وإن لم يكن معتدلاً في وزنه. وذلك شبيه بجملة الكلام الذي لا يتعمل ولا يتصنع له...

القرآن ليس شعراً ولا سجعاً

وقد علمنا أن القرآن خارج عن هذه الوجوه، ومباين لهذه الطرق، ويبقى علينا أن نبين أنه ليس من باب السجع، ولا فيه شيء منه، وكذلك ليس من قبيل الشعر، لأن من الناس من زعم أنه كلام مسجع ومنهم من يدعي أن فيه شعراً كثيراً، والكلام عليهما يذكر بعد هذا الموضع.

فهذا إذا تأمله المتأمل، تبين بخروجه عن أصناف كلامهم وأساليب خطابهم أنه خارج عن العادة، وأنه معجز، وهذا خصوصية ترجع إلى جملة القرآن، وتميز حاصل في جميعه.

ليس في كلام العرب مثيل لما في القرآن

ومنها: أنه ليس للعرب كلام مشتمل على هذه الفصاحة والغرابة، والتصرف البديع، والمعاني اللطيفة، والفوائد الغزيرة، والحكم الكثيرة، والتناسب في البلاغة، والتشابه في البراعة، على هذا الطول وعلى هذا القدر، وإنما تنسب إلى حكيمهم كلمات معدود، وألفاظ قليلة، وإلى شاعرهم قصائد محصورة، يقع فيها ما نبينه بعد هذا من الاختلال، ويعترضها ما نكشفه من الاختلاف، ويقع فيها ما نبديه من التعمل والتكلف والتجوز والتعسف.

القرآن على طوله متناسباً في الفصاحة

وقد حصل القرآن على كثرته وطوله متناسباً في الفصاحة، على ما وصفه الله تعالى به، فقال عز وجل: " اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابَاً مُتَشَابِهاً، مَّثَانِيَ، تَقْشَعِرُّ مِنْهُ قُلُوبُ الَّذِينَ يَخْشَونَ رَبَّهُم، ثُمَّ تَلِينُ، جُلُودُهُم وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِْكْرِ اللّهِ"، " وَلَوْ كَانَ مَنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً".

فأخبر أن كلام الآدمي إن امتد وقع فيه التفاوت، وبان عليه الاختلال، وهذا المعنى هو غير المعنى الأول الذي بدأنا بذكره فتأمله تعرف الفضل.

نظم القرآن لا يتفاوت ولا يتباين

وفي ذلك معنى ثالث: وهو أن عجيب نظمه وبديع تأليفه لا يتفاوت ولا يتباين، على ما يتصرف إليه من الوجوه التي يتصرف فيها، من ذكر قصص ومواعظ واحتجاج وحكم وأحكام وإعذار وإنذار ووعد ووعيد وتبشير وتخويف وأوصاف، وتعليم أخلاق كريمة وشيم رفيعة، وسير مأثورة وغير ذلك من الوجوه التي يشتمل عليها.

كلام البلغاء يتفاوت

ونجد كلام البليغ الكامل والشاعر المفلق، والخطيب المصقع، يختلف على حسب اختلاف هذه الأمور.

فمن الشعراء من يجود في المدح دون الهجو، ومنهم من يبرز في الهجو دون المدح، ومنهم من يسبق في التقريظ دون التأبين، ومنهم من يجود في التأبين دون التقريظ، ومنهم من يغرب في وصف الإبل أو الخيل أو سير الليل أو وصف الحرب أو وصف الروض أو وصف الخمر أو الغزل، أو غير ذلك مما يشتمل عليه الشعر، ويتداوله الكلام.

ولذلك ضرب المثل بامرئ القيس إذا ركب والنابغة إذا رهب وبزهير إذا رغب، ومثل ذلك يختلف في الخطب والرسائل وسائر أجناس الكلام.

الشاعر البليغ يتفاوت في شعره

ومتى تأملت شعر الشاعر البليغ رأيت التفاوت في شعره على حسب الأحوال التي يتصرف فيها، فيأتي بالغاية في البراعة في معنى، فإذا جاء إلى غيره قصر عنه ووقف دونه، وبان الاختلاف على شعره، ولذلك ضرب المثل بالذين سميتهم، لأنه لا خلاف في تقدمهم في صنعة الشعر، ولا شك في تبريزهم في مذهب النظم.

فإذا كان الاختلال بيناً في شعرهم، لاختلاف ما يتصرفون فيه، استغنينا عن ذكر من هو دونهم، وكذلك يستغنى به عن تفصيل نحو هذا في الخطب والرسائل ونحوها.

الشعراء يتفاوتون في نظمهم

ثم نجد في الشعراء من يجود في الرجز ولا يمكنه نظم القصيد أصلاً، ومنهم من ينظم القصيد ولكن يقصر فيه مهما تكلفه أو عمله.

ومن الناس من يجود في الكلام المرسل فإذا أتى بالموزون قصر ونقص نقصاناً عجيباً، ومنهم من يوجد بضد ذلك.

نظم القرآن يتساوى بلاغة

وقد تأملنا نظم القرآن فوجدنا جميع ما يتصرف فيه من الوجوه التي قدمنا ذكرها على حد واحد، في حس النظم، وبديع التأليف والرصف، لا تفاوت فيه. ولا انحطاط عن المنزلة العليا، ولا إسفال، إلى الرتبة الدنيا.

وكذلك قد تأملنا ما يتصرف إليه وجوه الخطاب من الآيات الطويلة والقصيرة، فرأينا الإعجاز في جميعها على حد واحد لا يختلف.

وكذلك قد يتفاوت كلام الناس عند إعادة ذكر القصة الواحدة، فرأيناه غير مختلف ولا متفاوت، بل هو على نهاية البلاغة، وغاية البراعة، فعلمنا بذلك أنه مما لا يقدر عليه بشر، لأن الذي يقدرون عليه قد بينا فيه التفاوت الكثير، عند التكرار، وعند تباين الوجوه واختلاف الأسباب.

كلام الفصحاء يتفاوت

ومعنى رابع: وهو أن كلام الفصحاء يتفاوت تفاوتاً بيناً في الفصل والوصل، والعلو والنزول، والتقريب والتبعيد، وغير ذلك مما ينقسم إليه الخطاب عند النظم، ويتصرف فيه القول عند الضم والجمع.

ألا ترى أن كثيراً من الشعراء قد وصف بالنقص عند التنقل من معنى إلى غيره، والخروج من باب إلى سواه، حتى أن أهل الصنعة قد اتفقوا على تقصير البحتري مع جودة نظمه وحسن وصفه في الخروج من النسيب إلى المديح، وأطبقوا على أنه لا يحسنه ولا يأتي فيه بشيء وإنما اتفق له في مواضع معدودة خروج يرتضى، وتنقل يستحسن.

وكذلك يختلف سبيل غيره عند الخروج من شيء إلى شيء، والتحول من باب إلى باب.

القرآن على اختلاف ما يتصرف فيه فهو يبلغ الغاية

ونحن نفصل بعد هذا ونفسر هذه الجملة، ونبين على أن القرآ ن على اختلاف ما يتصرف فيه من الوجوه الكثير، والطرق المختلفة يجعل المختلف كالمؤتلف، والمتباين كالمتناسب، والمتنافر في الأفراد إلى حد الآحاد. وهذا أمر عجيب تتبين به الفصاحة، وتطهر به البلاغة، ويخرج به الكلام عن حد العادة، ويتجاوز العرف.

نظم القرآن يخرج عن كلام الإنس والجن

ومعنى خامس: وهو أن نظم القرآن وقع موقعاً في البلاغة يخرج عن عادة كلام الإنس والجن، فهم يعجزون عن الإتيان بمثله كعجزنا، ويقصرون دونه كقصورنا، وقد قال الله عز وجل: " قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَاْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً".

اعتراض على ما قيل من عجز الجن

فإن قيل: هذه دعوى منكم، وذلك أنه لا سبيل لنا إلى أن نعلم عجز الجن عن مثله، وقد يجوز أن يكونوا قادرين على الإتيان بمثله، وإن كنا عاجزين، كما أنهم قد يقدرون على أمور لطيفة، وأسباب غامضة دقيقة، لا نقدر نحن عليها، ولا سبيل لنا للطفها إليها. وإذا كان كذلك لم يكن إلى علم ما ادعيتم سبيل..

جواب على الاعتراض

قيل: قد يمكن أن نعرف ذلك بخبر الله عز وجل.

وقد يمكن أن يقال: إن هذا الكلام خرج على ما كانت العرب تعتقده من مخاطبة الجن، وما يروون لهم من الشعر، ويحكون عنهم من الكلام.

فصاحة الجن لا تتعدى فصاحة الإنس

وقد علمنا أن ذلك محفوظ عندهم عنهم، والقدر الذي نقلوه قد تأملناه، فهو في الفصاحة لا يتجاوز حد فصاحة الإنس، ولعله يقصر عنها. ولا يمتنع أن يسمع الناس كلامهم، ويقع بينهم وبينهم محاورات في عهد الأنبياء صلوات الله عليهم، وذلك الزمان مما لا يمتنع فيه وجود ما ينقض العادات، على أن القوم إلى الآن يعتقدون مخاطبة الغيلان، ولهم أشعار محفوظة، مروية في دواوينهم.

تأبط شراً يصف اجتماعه بالغول

قال تأبط شراًّ:

وأدهم قد جُبْت جِـلـبـابـه

 

كما اجتابت الكاعُب الخيعلا

إلى أن حدا الصبحُ أثـنـاءَه

 

ومزَّق جِلـبـابـه الألـيلا

على شَيْم نار تَـنَـوَّرَتُـهـا

 

فبتُّ لها مُدبِـراً مُـقـبِـلا

فأصبحت والغولُ لي جـارةٌ

 

فيا جارتا أنتِ مـا أهـولا

وطالبتها بُضعَها فالـتـوت

 

بوجه تهوّلَ واسـتـغـولا

فمن سال أين ثوت جارتـي

 

فإن لها باللـوى مـنـزِلا

وكنتُ إذا ما هممتُ اعتزمتُ

 

وأحْرِ إذا قلت أن أفـعـلا

وقال آخر:

عَشَوْا ناري فقلتَ منُون أنتـم

 

فقالوا الجنُّ قلت عِمُوا ظلاما

فقمتُ إلى الطعامِ فقال منهم

 

زعيم يحسدُ الإنسَ الطعاما

ويذكرون لامرئ القيس قصيدة مع عمرو الجني، وأشعاراً لهما كرهنا ذكرها لطولها..

الغول في الأرض القفر

وقال عبيد بن أيوب:

فلله درُّ الغـولِ أي رفـيقةٍ

 

لصاحب قفرٍ خائف يتقفّـرُ

أرنَّت بلحنٍ بعد لحنٍ وأوقدت

 

حواليَّ نيراناً تبوخُ وتزهر

وقال ذو الرمة بعد قوله:

قد أعسِفُ النازحَ المجهولَ معْسِفُه

 

في ظل أخضرَ يدعو هامَهُ البُومُ

للجن بالليلِ في حافاتـهـا زَجَـلٌ

 

كما تَنَاوحُ يومَ الـريح عَـيشُـوم

دوّية ودُجـى لـيلٍ كـأنـهـمـا

 

يَمٌ تراطنُ في حافـاتـه الـرُّوم

وقال أيضاً:

وكم عرَّست بعد النوى من معرَّس

 

لها من كلام الجن أصواتُ سامِرِ

وقال:

ورملٍ عزيفُ الجن في عَقَباتِـهِ

 

هزيزٌ كَتَضراب المغنِّينَ بالطبلِ

كلام الجن ومخاطباتهم في مستوى فصاحة العرب

وإذا كان القوم يعتقدون كلام الجن ومخاطباتهم، ويحكون عنهم، وذلك القدر المحكي لا يزيد أمره على فصاحة العرب، صح ما وصف عندهم عنه، كعجز الإنس.

ويبين ذلك من القرآن أن الله تعالى حكى عن الجن ما تفاوضوا فيه من القرآن، فقال: " وإِذْ صَرَفْنَا إلَيُكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرآنَ، فَلَمَّا حَضَرُوهُ ٌقَالُواْ أَنْصِتُواْ، فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّواْ إِلَى قَوْمِهِمِ مُنْذِرِينَ". إلى آخر ما حكى عنهم فيما يتلوه، فإذا ثبت أنه وصف كلامهم، ووافق ما يعتقدونه من نقل خطابهم، صح أن يوصف الشيء المألوف بأنه ينحط عن درجة القرآن في الفصاحة.

قيل عجز الإنس عن القرآن يثبت عجز غيرهم

وهذان الجوابان أسدُّ عندي من جواب بعض المتكلمين عنه: بأن عجز الإنس عن القرآن يثبت له حكم الإعجاز، فلا يعتبر غيره، ألا ترى أنه لو عرفنا من طريق المشاهدة عجز الجن عنه.

فقال لنا قائل: فدلوا على أن الملائكة تعجز عن الإتيان بمثله، لم يكن لنا في الجواب غير هذه الطريقة التي قد بيناها.

وإنما ضعفنا هذا الجواب لأن الذي حكى وذكر، عجز الجن والإنس عن الإتيان بمثله، فيجب أن نعلم عجز الجن عنه، كما علمنا عجز الإنس عنه، ولو كان وصف عجز الملائكة عنه، لوجب أن نعرف ذلك أيضاً بطريقه.

ما دل على إعجاز الجملة على إعجاز التفاصيل

فإن قيل: أنتم قد انتهيتم إلى الإعجاز في التفاصيل، وهذا الفص إنما يدل على الإعجاز في الجملة.

قيل: هذا كما أنه يدل على الجملة فإنه يدل على التفاصيل أيضاً، فصح أن يلحق هذا القبيل، كما كان يصح أن يلحق بباب الجمل.

ما في كلام العرب من فنون الخطاب موجود في القرآن

ومعنى سادس وهو أن الذي ينقسم عليه الخطاب: من البسط والاقتصار والجمع والتفريق والاستعارة والتصريح والتجوز والتحقيق، ونحو ذلك من الوجوه التي توجد في كلامهم، موجود في القرآن، وكل ذلك مما يتجاوز حدود كلامهم المعتاد بينهم في الفصاحة والإبداع والبلاغة.. وقد ضمنا بيان ذلك بعد، لأن الوجه ههنا ذكر المقدمات دون البسط والتفصيل.

ما في القرآن من الشريعة والأحكام

يتعذر مثله على البشر

ومعنى سابع وهو أن ورود تلك المعاني التي يتضمنها في أصل وضع الشريعة والأحكام والاحتجاجات في أصل الدين والرد على الملحدين، على تلك الألفاظ البديعة، وموافقة بعضها بعضاً في اللطف والبراعة، مما يتعذر على البشر.

تخير الألفاظ للمعاني المبتكرة أصعب

ويمنع ذلك أنه قد علم أن تخير الألفاظ للمعاني المتداولة المألوفة، والأسباب الدائرة بين الناس، أسهل وأقرب، من تخير الألفاظ لمعان مبتكرة، وأسباب مستحدثة. فلو برع اللفظ في المعنى البارع كان ألطف وأعجب من أن يوجد اللفظ البارع في المعنى المتداول المتكرر والأمر المتقرر المتصور.

ثم إن انضاف إلى ذلك التصرف البديع، في الوجوه التي تتضمن تأييد ما يبتدأ تأسيسه، ويراد تحقيقه، بأن التفاضل في البراعة والفصاحة ثم إذا وجدت الألفاظ وفق المعنى، والمعاني وفقها، لا يفضل أحدها على الآخر، فالبراعة أظهر، والفصاحة أتم.

متى يبين فضل الكلام

ومعنى ثامن: وهو أن الكلام يبين فضله، ورجحان فصاحته، بأن تذكر منه الكلمة في تضاعيف كلام، أو تقذف ما بين شعر، فتأخذه الأسماع، وتتشوف إليه النفوس، ويرى وجه رونقه بادياً غامراً سائر ما يقرن به، كالدرة التي ترى في سلك من خرز، وكالياقوتة في واسطة العقد.

وأنت ترى الكلمة من القرآن يتمثل بها في تضاعيف كلام كثير، وهي غرة جميعه، وواسطة عده، والمنادى على نفسه بتميزه، وتخصصه برونقه وجماله، واعتراضه في جنسه ومائه.

تحير أهل الفصاحة

وهذا الفصل أيضاً مما يحتاج إلى تفصيل وشرح ونص، ليتحقق ما ادعيناه منه، ولولا هذه الوجوه التي بيناها لم يتحير فيه أهل الفصاحة، ولكانوا يفزعون إلى التعمل للمقابلة، والتصنع للمعارضة، وكانوا ينظرون في أمرهم ويراجعون أنفسهم، أو كان يراجع بعضهم بعضاً في معارضته، ويتوقفون لها.

عدل أهل الصنعة لما عرفوا عجزهم

فلما لم نرهم اشتغلوا بذلك، علم أن أهل المعرفة منهم بالصنعة إنما عدلوا عن هذه الأمور، لعلمهم بعجزهم عنه. وقصور فصاحتهم دونه.

ولا يمتنع أن يلتبس على من لم يكن بارعاً فيهم ولا متقدماً في الفصاحة منهم هذه الحال، حتى لا يعلم إلا بعد نظر وتأمل، وحتى يعرف حال عجز غيره.. إلا أنا رأينا صناديدهم وأعيانهم ووجوههم سلموا، ولم يشتغلوا بذلك، تحققاً بظهور العجز، وتبيناً له.

كذبوا حين قالوا لو نشاء لقلنا مثله

وأما قوله تعالى حكاية عنهم: " قَالُواْ قَدْ سَمِعْنَا لو نشاء لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا" فقد يمكن أن يكونوا كاذبين فيما أخبروا به عن أنفسهم، وقد يمكن أن يكون هذا الكلام إنما خرج منهم وهو يدل على عجزهم، ولذلك أورده الله مورد تقريعهم، لأنه لو كانوا على ما وصفوا به أ نفسهم لكانوا يتجاوزون الوعد إلى الإنجاز، والضمان إلى الوفاء.

لم يستعملوا التحدي لعجزهم

فلما لم يستعملوا ذلك مع استمرار التحدي، وتطاول زمان الفسحة في إقامة الحجة عليهم بعجزهم عنه، علم عجزهم، إذ لو كانوا قادرين على ذلك لم يقتصروا على الدعوى فقط، ومعلوم من حالهم وحميتهم أن الواحد منهم يقول في الحشرات والهوام والحيات، وفي وصف الأزمة والأنساع والأمور التي لا يؤبه لها ولا يحتاج إليها، ويتنافسون في ذلك أشد التنافس، ويتبجحون به أشد التبجح.

فكيف يجوز أن تمكنهم معارضته في هذه المعاني الفسيحة والعبارات الفصيحة، مع تضمن المعارضة تكذيبه والذبّ عن أديانهم القديمة، وإخراجهم أنفسهم من تسفيهه رأيهم وتضليله إياهم، والتخلص من منازعته، ثم من محاربته ومقارعته، ثم لا يفعلون شيئاً من ذلك وإنما يحيلون أنفسهم على التعاليل، ويعللونها بالأباطيل?

حروف كلام العرب

ومعنى تاسع: وهو أن الحروف التي بني عليها كلام العرب تسعة وعشرون حرفاً، وعدد السور التي افتتح فيها بذكر الحروف ثمان وعشرون سورة.

وجملة ما ذكر من هذه الحروف في أوائل السور من حروف المعجم نصف الجملة، وهو أربعة عشر حرفاً، ليدل بالمذكور على غيره، وليعرفوا أن هذا الكلام منتظم من الحروف التي ينظمون بها كلامهم.

أقسام الحروف

والذي ينقسم إليه هذه الحروف: على ما قسمه أهل العربية، وبنوا عليها وجوهها: أقسام نحن ذاكروها: فمن ذلك أنهم قسموها إلى: حروف مهموسة، وأخرى مجهورة.

الحروف المهموسة

فالممهموسة منها عشرة، وهي: الحاء، والهاء، والخاء، والكاف، والشين، والثاء، والفاء، والتاء، والضاد، والسين: وما سوى ذلك من الحروف فهي مجهورة.

وقد عرفنا أن نصف الحروف المهموسة مذكورة في جملة الحروف المذكورة في أوائل السور، وكذلك نصف الحروف المجهورة على السواء لا زيادة ولا نقصان.

الحروف المجهورة

والمجهور معناه أنه حرف أشبع الاعتماد في موضعه، ومنع أن يجري معه حتى ينقضي الاعتماد، ويجري الصوت.. والمهموس كل حرف ضعف الاعتماد في موضعه، حتى جرى معه النفس، وذلك مما يحتاج إلى معرفته، لتبتني عليه أصول العربية.

حروف الحلق

وكذلك مما يقسمون إليه الحروف: يقولون أنها على ضربين: أحدهما: حروف الحلق، وهي ستة أحرف: العين والحاء والهمزة والهاء والخاء والغين.. والنصف من هذه الحروف مذكور في جملة الحروف التي تشتمل عليها الحروف المبينة في أوائل السور، وكذلك النصف من الحروف التي ليست بحروف الحلق.

الحروف شديدة وغيرشديدة

وكذلك تنقسم هذه الحروف إلى قسمين آخرين: أحدهما حروف غير شديدة، وإلى الحروف الشديدة، وهي التي تمنع الصوت أن يجري فيه وهي: الهمزة والقاف والكاف والجيم والظاء والذال والطاء والباء.

وقد علمنا أن نصف هذه الحروف أيضاً هي مذكورة في جملة تلك الحروف التي بني عليها تلك السور.

الحروف مطبقة ومنفتحة

ومن ذلك: الحروف المطبقة، وهي أربعة أحرف. وما سواها منفتحة. فالمطبقة: الطاء والظاء والضاد والصاد.

وقد علمنا أن نصف هذه في جملة الحروف المبدوء بها في أوائل السور.

تقسيم الحروف جاء متأخراً لكن بإلهام من الله

وإذا كان القوم الذين قسموا في الحروف هذه الأقسام، لأغراض لهم في ترتيب العربية، وتنزيلها، بعد الزمان الطويل، من عهد النبي صلى الله عليه وسلم ، رأوا مباني اللسان على هذه الجهة، وقد نبه بما ذكر في أوائل السور على ما لم يذكر، على حد التنصيف الذي وصفنا. دل على أن وقوعها الموقع الذي يقع التواضع عليه، بعد العهد الطويل، لا يجوز أن يقع إلا من الله عز وجل، لأن ذلك يجري مجرى علم الغيوب، وإن كان إنما نبهوا على ما بني عليه اللسان في أصله، ولم يكن لهم في التقسيم شيء، وإنما التأثير لمن وضع أصل اللسان: فذلك أيضاً من البديع، الذي يدل على أن أصل وقع موقع الحكمة التي يقصر عنها اللسان.

أصل اللغة توقيفي واجتماع همم العلماء بأمر من الله

فإن كان أصل اللغة توقيفاً فالأمر في ذلك أبين، وإن كان على سبيل التواضع فهو عجيب أيضاً، لأنه لا يصح أن تجتمع هممهم المختلفة على نحو هذا إلا بأمر من عند الله تعالى، وكل ذلك يوجب اثبات الحكمة في ذاكر هذه الحروف على حد يتعلق به الإعجاز من وجه.

تعاد فاتحة كل سورة لفائدة

وقد يمكن أن تعاد فاتحة كل سورة لفائدة تخصها في النظم إذا كانت حروفاً، كنحو ألم، الآن الألف المبدوء بها هي أقصاها مطلعاً، واللام متوسطة، والميم متطرفة، لأنها تأخذ في الشفة.

فنبه بذكرها على غيرها من الحروف، وبين أنه إنما أتاهم بكلام منظوم، بما يتعارفون من الحروف، التي تتردد بين هذين الطرفين؛ ويشبه أن يكون التنصيف وقع في هذه الحروف دون الألف، لأن الألف قد تلغى، وقد تقع الهمزة وهي موقعاً واحداً.

كلام القرآن سهل لكنه عسير المتناول

ومعنى عاشر: وهو أنه سهل سبيله، فهو خارج عن الوحشي المستكره، والغريب المستنكر وعن الصنعة المتكلفة، وجعله قريباً إلى الإفهام، يبادر معناه لفظه إلى القلب، ويسابق المغزى منه عبارته إلى النفس.

وهو مع ذلك ممتنع المطلب، عسير المتناول، غير مطمع مع قربه في نفسه، ولا موهم مع دنوه في موقعه أن يقدر عليه أو يظفر به.

فأما الانحطاط عن هذه الرتبة إلى رتبة الكلام المبتذل، والقول المسفسف، فليس يصح أن تقع فيه فصاحة أو بلاغة فيطلب فيه التمنع، أو يوضع فيه الإعجاز، ولكن لو وضع في وحشي مستكره، أو غمر بوجوه الصنعة وأطبق بأبواب التعسف والتكلف، لكان القائل أن يقول فيه ويعتذر ويعيب ويقرع. ولكنه أوضح مناره، وقرب منهاجه، وسهل سبيله، وجعله في ذلك متشابهاً متماثلاً، وبين مع ذلك اعجازهم فيه.

كلام فصحاء العرب لا يخلو من هنات

وقد علمت أن كلام فصحائهم، وشعر بلغائهم، لا ينفك من تصرف في غريب مستنكر أو وحشي مستكره، ومعان مستبعدة، ثم عدولهم إلى كلام مبتذل وضيع لا يوجد دونه في الرتبة ثم تحولهم إلى كلام معتدل بين الأمرين، متصرف بين المنزلتين.

كبير شعراء الجاهلية في شعره مأخذ

فمن شاء أن يتحقق هذا نظر في قصيدة امرئ القيس:

قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل

ونحن نذكر بعد هذا على التفصيل ما تتصرف إليه هذه القصيدة، ونظائرها ومنزلتها من البلاغة، ونذكر وجه فوت نظم القرآن محلها، على وجه يؤخذ باليد، ويتناول من كثب، ويتصور في النفس كتصور الأشكال، ليبين ما ادعيناه من الفصاحة العجيبة للقرآن.

الأحكام معللة بعلل توافق مقتضى العقل

واعلم أن من قال من أصحابنا: إن الأحكام معللة بعلل موافقة مقتضى العقل جعل هذا وجهاً من وجوه الإعجاز، وجعل هذه الطريقة دلالة فيه كنحو ما يعللون به الصلاة ومعظم الفروض وأصولها، ولهم في كثير من تلك العلل طريق قريبة، ووجوه تستحسن. وأصحابنا من أهل خراسان يولعون بذلك، ولكن الأصل الذي يبنون عليه عندنا غير مستقيم، وفي ذلك كلام يأتي في كتابنا في "الأصول".

وقد يمكن في تفاصيل ما أوردنا من المعاني الزيادة والإفراد، فإنا جمعنا بين أمور، وذكر المزية المتعلقة بها، وكل واحد من تلك الأمور مما قد يمكن اعتماده في إظهار الإعجاز فيه.

هل القرآن معجز لأنه حكاية لكلام الله القديم

فإن قيل: فهل تزعمون أنه معجز، لأنه حكاية الكلام القديم سبحانه، أو لأنه عبارة عنه، أو لأنه قديم في نفسه? قيل: لسنا نقول بأن الحروف قديمة، فيكف يصح التركيب على الفاسد، ولا نقول أيضاً إن وجه الإعجاز في نظم القرآن أنه حكاية عن الكلام القديم، لأنه لو كان كذلك لكانت التوراة والإنجيل وغيرهما من كتب الله عز وجل معجزات في النظم والتأليف، وقد بينا أن إازه في غير ذلك. وكذلك كان يجب أن تكون كل كلمة مفردة معجزة بنفسها ومنفردها، وقد ثبت خلاف ذلك.

الفصل الرابع

في شرح ما بينا من وجه إعجاز القرآ ن

لإخبار عن الغيوب في عهد الرسول عليه السلام

فأما الفصل الذي بدأنا بذكره، من الإخبار عن الغيوب، والصدق، والإصابة في ذلك كله، فهو: كقوله تعالى: "قُلْ لّلْمُخَلَّفِينْ مِنَ الأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ".

فأغزاهم أبو بكر وعمر رضي الله عنهما إلى قتال العرب والفرس والروم.

وكقوله: "آلم، غُلِبَتْ الرُّومُ فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونْ، فِي بِضْعِ سِنِينَ".

وراهن أبو بكر الصديق رضي الله عنه في ذلك، وصدق الله وعده.

وكقوله في قصة أهل بدر: "سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُولُّونَ الدُّبُر".

وكقوله: "لَقَد صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إنِ شآءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلّقِيِنَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لاَ تَخَافُونَ".

وكقوله: "وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتيْن أَنَّهَا لَكُمْ"، في قصة أهل بدر.

وكقوله: "وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمنُوا وَعَمِلُواْ الصَّالِحاتِ ليستَخلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَليُمكِنَنَّ لَهُم دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِن بَعْدِ خَوْفِهِمْ آَمْناً".

وصدق الله تعالى وعده في كل ذلك.

وقال في قصة المتخلفين عنه في غزوته: "لَنْ تُخْرُجُواْ مَعِيَ أَبداً وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوّاً"، فحق ذلك كله وصدق، ولم يخرج من المخالفين الذي خوطبوا بذلك معه أحد.

وكقوله: "لِيُظْهرَهُ عَلى الدِّينِ كُلِّه".

وكقوله: فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنَا وَأَبْنَاءَكُم وَنِسَاءَنا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنفُسنَا وَأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلَ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الكَاذِبِينَ"، فامتنعوا من المباهلة، ولو أجابوا إليها اضطرمت عليهم الأودية ناراً على ما ذكر في الخبر.

وكقوله: "قُلْ إِنِ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الآخِرَةُ عِندَ اللًّهِ خَالِصَةً مِن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُاْ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ، وَلَن يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهمْ"، ولو تمنوه لوقع بهم فهذا وما أشبهه فصل.

الإخبار عن قصص الأولين.

وأما الوجه الثاني الذي ذكرناه، من إخباره عن قصص الأولين، وسير المتقدمين، فمن العجيب الممتنع، على من لم يقف على الإخبار، ولم يشتغل بدرس الآثار.

وقد حكى في القرآن تلك الأمور حكاية من شهدها، وحضرها ولذلك قال الله تعالى: "وَمَا كُنْتَ تَتْلُوا مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلاَ تَخُطُّهُ بِيَمِيِنكَ إِذاً لاَّرْتَابَ الْمُبْطِلُونَ".

وقال: وَمَا كُنْتَ بِجَانِب الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلى مُوسَى الأَمْرَ وَمَا كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ".

وقال: "وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِن رَّحْمَةً مِن رَّبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً مَّا أَتَاهُمْ مِنْ نّذَيرٍ مِن قَبْلِكَ". فبين وجه دلالته من إخباره بهذه الأمور الغائبة السالفة.

وقال: تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تُعْلَمُها أَنْتَ وَلاَ قَوْمَكَ، مِن قَبْلِ هَذَا". الآية.

?الإعجاز الواقع في النظم التأليف والرصف

فأما الكلام في الوجه الثالث، وهو الذي بيناه، من الإعجاز الواقع في النظم والتأليف والرصف، فقد ذكرنا من هذا الوجه وجوهاً.

منها أنا قلنا: إنه نظم خارج عن جميع وجوه النظم المعتاد في كلامهم، ومباين لأساليب خطابهم.

ومن ادعى ذلك لم يكن له بد من إنه يصحح: أنه ليس من قبيل الشعر ولا السجع ولا الكلام الموزون غير المقفى، لأن قوماً من كفار قريش ادعوا: أنه شعر، ومن الملحدة من يزعم: أن فيه شعراً، ومن أهل الملة من يقول: إنه كلام مسجع إلا أنه أفصح مما قد اعتادوه من أسجاعهم، ومنهم من يدعي: أنه كلام موزون فلا يخرج بذلك عن أصناف ما يتعارفونه من الخطاب.

الفصل الخامس

في نفي الشعر من القرآن

الله تعالى نفى الشعر من القرآن

قد علمنا أن الله تعالى نفى الشعر من القرآن، ومن النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: "وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشّعْرَ وَمَا يَنبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُّبِينٌ".

وقال في ذم الشعراء: "وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُون، أَلَم تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ"، إلى آخر ما وصفهم به في هذه الآيات.

وقال: "وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعرِ".

الكفار زعموا أن محمداً شاعر

وهذا يدل على أن ما حكاه على الكفار، من قولهم: إنه شاعر، وإن هذا إلا شعر، لابد من أن يكون محمولاً على أنهم نسبوه في القرآن إلى أن الذي أتاهم به هو من قبيل الشعر الذي يتعارفونه، على الأعاريض المحصورة المألوفة.

أو يكون محمولاً على ما كان يطلق الفلاسفة على حكماتهم وأهل الفطنة منهم في وصفهم إياهم الشعر، لدقة نظرهم في وجوه الكلام، وطرق لهم في المنطق، وإن كان ذلك الباب خارجاً عما هو عند العرب شعر على الحقيقة.

أو يكون محمولاً على أنه أطلق من بعض الضعفاء منهم في معرفة أوزان الشعر، وهذا أبعد الاحتمالات.

قالوا الشاعر يفطن إلى ما لا يفطن له غيره

فإن حمل على الوجهين الأولين كان ما أطلقوه صحيحاً، وذلك أن الشاعر يفطن لما لا يفطن له غيره، وإذا قدر على صنعة الشعر كان على ما دونه في رأيهم وعندهم أقدر، فنسبوه إلى ذلك لهذا السبب.

زعموا إن في القرآن شعراً

فإن زعم زاعم أنه قد وجد في القرآن شعراً كثيراً، فمن ذلك ما يزعمون أنه بيت تام أو أبيات تامة، ومنه ما يزعمون أنه مصراع، كقول القائل:

قد قلت لما حاولوا سلوتـي

 

هيهاتَ هيهاتَ لِما تُوعَدُون

ومما يزعمون أنه بيت قوله:

وجِفَانٍ كالجواب

 

وقَدَورٍ رَاسِياتِ

قالوا هو من الرمل من البحر الذي قيل فيه:

ساكنُ الريحَ نطـوفُ

 

المزنِ مُنْحَلُّ العَزَالي

وكقوله:

مَنْ تَزَكَّى فإِنما

 

يَتَزكْى لِنَفْسِهِ

كقول الشاعر من بحر الخفيف:

كل يوم بشمسه

 

وغدٌ مثلُ أمسِهِ

وكقوله عز وجل: "وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهِ يَجْعَلْ لَّهْ مَخْرَجاً، وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتسِبُ" قالوا هو من المتقارب... وكقوله:

وَدَانِيةً عَلَيْهِمْ ظِلاَلُهَـا

 

وَذُلِّلِتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلا"

ويشبعون حركة الميم فيزعمون أنه من الرجز، وذكر عن أبي نواس أنه ضمن ذلك شعراً وهو قوله:

وفتيةٍ في مجلسٍ وُجُوهم

 

ريحانُهم قد عَدِموا التثقيلا

دانيةً عَليْهِمُ ظِـلالُـهـا

 

وذُلِّلَتْ قُطُوفُها تَـذْلِـيلا

وقوله عز وجل: "وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيهِمْ، وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ".

زعموا أنه من الوافر كقول الشاعر:

لنا غنمٌ نُسَوِّقُهـا غِـزار

 

كانّ قرونَ جلّتها عصيُّ

وكقوله عز وجل:

"أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ فّذَلِكَ الَّذِي يَدُعّ الْيَتِيِمَ".

ضمنه أبو نواس في شعره ففصل، وقال "فذاك الذي"، وشعره:

وقرا مُعلناً ليصدعَ قـلـبـي

 

والهوى يصدعُ الفؤاد السقيما

أرأيت الذي يُكِذّبُ بـالـدي

 

ن فذاك الذي يَدُعُّ اليتـيمـا

وهذا من الخفيف كقول الشاعر:

وفؤادي كعهده بُسليمى

 

بهوىً لم يَحُلْ ولم يتغيرْ

وكما ضمنه في شعره من قوله:

سبحان من سَخّر هذا لنا

 

حقَّا وما كنا له مُقْرنين

فزاد فيه حتى انتظم له الشعر، وكما يقولونه في قوله عز وجل: "وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحاً فَالْمُورِياتِ قَدْحَاً".

ونحو ذلك في القرآن كثير كقوله: "وَالذَّارِياتِ ذَرْواً، فَالْحَامِلاَتِ وِقْراً، فَالْجَارِيَاتِ يُسْراً".

وهو عندهم شعر من بحر البسيط.

الجواب عن دعوى وجود الشعر في القرآن

والجواب عن هذه الدعوى التي ادعوها من وجوه:

الفصحاء لم يعتقدوا أنه شعر وإلا لعارضوه

أولها: أن الفصحاء منهم حين أورد عليهم القرآن لو كانوا يعتقدونه شعراً، ولم يروه خارجاً عن أساليب كلامهم، لبادروا إلى معارضته، لأن الشعر مسخر لهم مسهل عليهم لهم فيه ما قد علمت من التصرف العجيب، والاقتدار اللطيف، فلما لم نرهم اشتغلوا بذلك، ولا عولوا عليه، علم أنهم لم يعتقدوا فيه شيئاً مما يقدره الضعفاء في الصنعة، والمرمدون في هذا الشأن.

وإن استدراك من يجيىء الآن على فصحاء قريش وشعراء العرب قاطبة في ذلك الزمان وبلغائهم وخطبائهم، وزعمه أنه قد ظفر بشعر في القرآن، والغض منه، والتوصل إلى تكذيبه بكل ما قدروا عليه، لن يجوز أن يخفى على أولئك وأن يجهلوه ويعرفه من جاء الآن وهو بالجهل حقيق.

البيت الواحد وما كان على وزنه لا يكون شعراً

وإذا كان كذلك علم أن الذي أجاب به العلماء عن هذا السؤال سديد، وهو أنهم قالوا: أن البيت الواحد وما كان على وزنه لا يكون شعراً وأقل الشعر بيتان فصاعداً، وإلى ذلك ذهب أكثر ر أهل صناعة العربية من أهل الإسلام.

وقالوا أيضاً: إن ما كان على وزن بيتين إلا أنه يختلف رويهما وقافيتهما فليس بشعر.

الرجز ليس شعراً

ثم منهم من قال: إن الرجز ليس بشعر أصلاً، لا سيما إذا كان مشطوراً أو منهوكاً، وكذلك ما كان يقارنه في قلة الأجزاء... وعلى هذا يسقط السؤال.

الشعر يطلق متى قصد القاصد إليه

ثم يقولون: إن الشعر إنما يطلق متى قصد القاصد إليه، على الطريق الذي يتعمد ويسلك، ولا يصح أن يتفق مثله إلا من الشعراء، دون ما يستوي فيه العامي والجاهل والعالم بالشعر واللسان وتصرفه وما يتفق من كل واحد، فليس يكتسب اسم الشعر، ولا صاحبه اسم شاعر، لأنه لو صح أن يسمى كل من اعترض في كلامه ألفاظ تتزن بوزن الشعر، أو تنتظم انتظام بعض الأعاريض، كان الناس كلهم شعراء، لأن كل متكلم لا ينفك من أن يعرض في جملة كلام كثير بقوله ما قد يتزن بوزن الشعر، وينتظم انتظامه. ألا ترى أن العامي قد يقول لصاحبه: "أغلق الباب وائتني بالطعام"، ويقول الرجل لأصحابه: "اكرموا من لقيتم من تميم".

ومتى تتبع الإنسان هذا عرف أنه يكثر في تضاعيف الكلام مثله وأكثر منه. وهذا القدر الذي يصح فيه التوارد ليس يعده أهل الصناعة سرقة، إذ لم تعلم فيه حقيقة الأخذ، كقول امرئ القيس:

وقوفاً بها صحبي عليَّ مطيهم

 

يقولون لا تهلك أسىً وتجمَّلِ

وكقول طرفة:

وقوفاً بها صحبي عليَّ مطيهم

 

يقولون لا تهلك أسىً وتجلـد

قد يقع الكلام الموزون في الكلام المنثور اتفاقاً

ومثل هذا كثير. فإذا صح مثل ذلك في بعض البيت، ولم يمتنع التوارد فيه، فكذلك لا يمتنع وقوعه في الكلام المنثور، اتفاقاً غير مقصود إليه، فإذا اتفق لم يكن ذلك شعراً.

وكذلك يمتنع التوارد على بيتين، وكذلك يمتنع في الكلام المنثور وقوع البيتين ونحوهما.. فثبت بهذا أن ما وقع هذا الموقع لم يعد شعراً، وإنما يعد شعراً ما إذا قصده صاحبه تأتَّى له، ولم يمتنع عليه، فإذا كان هو مع قصده لا يتأتى له، وإنما يعرض في كلامه عن غير قصد إليه، لم يصح أن يقال: إنه شعر، ولا أن صاحبه شاعر.

ولا يصح أن يقال: إن هذا يوجب أن مثل هذا لو اتفق من شاعر فيجب أن يكون شعراً، لأنه لو قصده لكان يتأتى منه. وإنما لم يصح ذلك لأن ما ليس بشعر فلا يجوز أن يكون شعراً من أحد، وما كان شعراً من أحد من الناس كان شعراً من كل أحد.

ألا ترى أن السوقي قد يقول: "اسقني الماءَ يا غلامُ سريعاً" وقد يتفق ذلك من الساهي، ومن لا يقصد النظم، فأما الشعر إذا بلغ الحد الذي بينا فلا يصح أن يقع إلا من قاصد إليه.

الرجز يعرض في كلام العوام

وأما الرجز فإنه يعرض في كلام العوام كثيراً، فإذا كان بيتاً واحداً فليس ذلك بشعر، وقد قيل: إن أقل ما يكون منه شعراً أربعة أبيات بعد أن تتفق قوافيها، ولم يتفق ذلك في القرآن بحال.

ما دون أربعة أبيات فليس بشعر

فأما دون أربعة أبيات منه، أو ما يجري مجراه في قلة الكلمات، فليس بشعر، وما اتفق في ذلك من القرآن مختلف الروي، ويقولون: إنه متى اختلف الروي خرج من أن يكون شعراً.

وهذه الطرق التي سلوكها في الجواب معتمدة أو أكثرها، ولو كان ذلك شعراً لكانت النفوس تتشوف إلى معارضته، لأن طريق الشعر غير مستضعف على أهل الزمان الواحد، وأهله يتقاربون فيه، أو يضربون فيه بسهم.

في القرآن كلام موزون ولكنه غير مقفى

فإن قيل: في القرآن كلام موزون كوزن الشعر وإن كان غير مقفّى، بل هو مزاوج متساوي الضروب، وذلك آخر أقسام كلام العرب.

قيل: من سبيل الموزون من الكلام أن تتساوى أجزاؤه في الطول والقصر والسواكن والحركات، فإن خرج عن ذلك لم يكن موزوناً كقوله:

رب أخٍ كنتُ به مغتبطـاً

 

أشدُّ كفّي بِعُرى صحبته

تمسكاً مني بـالـودّ ولا

 

أحسبُهُ يزهدُ في ذي أملِ

تمسكاً مني بـالـودّ ولا

 

أحسَبُهُ يُغَيِّرُ العهـدَ ولا

يحُـول عـنـه أبــدا

 

فخـابَ فـيه أَمَـلـي

القرآن ليس من قبيل الشعر ولا توافرت فيه شروطه

وقد علمنا أن هذا القرآن ليس من هذا القبيل، بل هو قبيل غير ممدوح ولا مقصود من جملة الفصيح، وربما كان عندهم مستنكراً، بل أكثره على ذلك.

وكذلك ليس في القرآن من الموزون الذي وصفناه أولاً، وهو الذي شرطنا فيه التعادل والتساوي في الأجزاء غير الاختلاف الواقع في التقفية.. ويبين ذلك أن القرآن خارج عن الموزون الذي بينا، وتتم فائدته بالخروج منه، وأما الكلام الموزون فإن فائدته تتم بوزنه.

الفصل السادس

في نفي السجع من القرآن

العلماء نفوا وجود السجع في القرآن

ذهب أصحابنا كلهم إلى نفي السجع من القرآن، وذكره أبو الحسن في غير موضع من كتبه.

أثبت غيرهم وجود السجع في القرآن: وذهب كثير من يخالفهم إلى اثبات السجع في القرآن، وزعموا أن ذلك مما يبين به فضل الكلام، وأنه من الأجناس التي يقع بها التفاضل في البيان والفصاحة، كالتجنيس والالتفات وما أشبه ذلك، من الوجود التي تعرف بها الفصاحة.

يستدلون على وجود السجع

وأقوى ما يستدلون به عليه: اتفاق الكل على أن موسى أفضل من هرون عليهما السلام، ولمكان السجع قيل في موضع: هرون وموسى، ولما كانت الفواصل في موضع آخر بالواو والنون قيل: موسى وهرون.

السجع غير الشعر

قالوا وهذا يفارق أمير الشعر؛ لأنه لا يجوز أن يقع في الخطاب إلا مقصوداً إليه، وإذا وقع غير مقصود إليه كان دون القدر الذي يسمى شعراً، وذلك القدر ما يتفق وجوده من المفحم كما يتفق وجود ه من الشاعر..

قيل السجع في القرآن كثير

وأما ما في القرآن من السجع فهو كثير، لا يصح أن يتفق كله غير مقصود إليه، ويبنون الأمر في ذلك على تحديد معنى السجع.

تعريف السجع

قال أهل اللغة: هو موالاة الكلام على وزن واحد، قال ابن دريد: سجعت الحمامة معناها رددت صوتها. وأنشد:

طرِبتَ فأبكتك الحمامُ السواجِعُ

 

تميل بها ضَحْواً غصونُ نوائعُ

النوائع: الموائل، من قولهم نائع، أي متمايل ضعفاً.

الصحيح أنه لا سجع في القرآن

وهذا الذي يزعمونه غير صحيح، ولو كان القرآن سجعاً لكان غير خارج عن أساليب كلامهم، ولو كان داخلاً فيها لم يقع بذلك إعجاز.

ولو جاز أن يقال: هو سجع معجز لجاز لهم أن يقولوا: شعر معجز.

وكيف والسجع مما كان يألفه الكهان من العرب? ونفيه من القرآن أجدر بأن يكون حجة من نفي الشعر، لأن الكهانة تنافي النبوات وليس كذلك الشعر..

الرسول نهى عن السجع

وقد روي أن النبي )صلى الله عليه وسلم قال للذين جاءوه وكلموه في شأن الجنين: "كيف نذي من لا شرب ولا أكل، ولا صاح فاستهل، أليس دمه قد يطل".

فقال: "اسجاعة كسجاعة الجاهلية"? وفي بعضها: أسجعاً كسجع الكهان" فرأى ذلك مذموماً لم يصح أن يكون في دلالته.

ما قدروه أنه سجع فهو وهم

والذي يقدرونه أنه سجع فهو وهم، لأنه قد يكون الكلام على منال السجع وإن لم يكن سجعاً، لأن ما يكون به الكلام سجعاً يختص ببعض الوجوه دون بعض، لأن السجع من الكلام يتبع المعنى فيه اللفظ الذي يؤدي السجع، وليس كذلك ما اتفق مما هو في تقدير السجع من القرآن، لأن اللفظ يقع فيه تابعاً للمعنى.

وفصل بين أن ينتظم الكلام في نفسه، بألفاظه التي تؤدي المعنى المقصود فيه، وبين أن يكون المعنى منتظماً دون اللفظ، ومتى ارتبط المقصود فيه، وبين أن يكون المعنى منتظماً دون اللفظ، ومتى ارتبط المعنى بالسجع كانت إفادة السجع كإفادة غيره، ومتى ارتبط المعنى بنفسه دون السجع كان مستجلباً لتجنيس الكلام دون تصحيح المعنى.

فإن قيل: فقد يتفق في القرآن ما يكون من القبيلين جميعاً، فيجب أن تسموا أحدهما سجعاً.

قيل: الكلام في تفصيل هذا خارج عن عرض كتابنا، وإلا كنا نأتي على فصل من أول القرآن إلى آخره، ونبين في الموضع الذي يدعون الاستغناء عن السجع من الفوائد ما لا يخفى، ولكنه خارج عن غرض كتابنا وهذا القدر يحقق الفرق بين الموضعين.

قد يقع في القرآن ما يشبه السجع لكنه غير مقصود

ثم إن سلم لهم مسلّم موضعاً أو مواضع معدودة، وزعم أن وقوع ذلك موقع الاستراحة في الخطاب إلى الفواصل لتحسين الكلام بها، وهي الطريقة التي يباين القرآن بها سائر الكلام، وزعم أن الوجه في ذلك أنه من باب الفواصل، أو زعم أن ذلك وقع غير مقصود إليه، وأن ذلك إذا اعترض في الخطاب لم يعد سجعاً، على ما بينا من القليل من الشعر، كالبيت الواحد والمصراع، والبيتين من الرجز، ونحو ذلك يعرض فيه، فلا يقال إنه شعر، لأنه لا يقع مقصوداً إليه، وإنما يقع مغموراً في الخطاب، فكذلك حال السجع الذي يزعمونه ويقدرونه.

لو كان في القرآن سجع لكان سجعاً قبيحاً

ويقال لهم: لو كان الذي في القرآن على ما يقدرونه سجعاً لكان مذموماً مرذولاً، لأن السجع إذا تفاوتت أوزانه، واختلفت طرقه، كان قبيحاً من الكلام.

وللسجع منهج مرتب محفوظ، وطريق مضبوط، متى أخل به المتكلم أو وقع الخلل في كلامه، ونسب إلى الخروج عن الفصاحة، كما أن الشاعر إذا خرج عن الوزن المعهود كان مخطئاً، وكان شعره مرذولاً، وربما أخرجه عن كونه شعراً.

وقد علمنا أن بعض ما يدعونه سجعاً متقارب الفواصل، متداني المقاطع؛ وبعضها مما يمتد حتى يتضاعف طوله عليه، وترد الفاصلة على ذلك الوزن الأول بعد كلام كثير، وهذا في السجع غير مرضي ولا محمود.

قيل إن في القرآن سجعاً غير ملتزم

فإن قيل: متى خرج السجع المعتدل إلى نحو ما ذكرتموه، خرج من أن يكون سجعاً، وليس على المتكلم أن يلتزم أن يكون كلامه سجعاً، بل يأتي به طوراً، ثم يعدل عنه إلى غيره، ثم قد يرجع إليه.

الجواب على هذا الاعتراض

قيل: متى وقع أحد مصراعي البيت مخالفاً للآخر كان تخليطاً وخبطاً، وكذلك متى اضطرب أحد مصراعي الكلام المسجع وتفاوت كان خبطاً.

وعلم أن فصاحة القرآن غير مذمومة في الأصل، فلا يجوز أن يقع فيها نحو هذا الوجه من الاضطراب، ولو كان الكلام الذي هو في صورة السجع منه لما تحيروا فيه، وكانت الطباع تدعو إلى المعارضة، لأن السجع غير ممتنع عليهم، بل هو عادتهم، فكيف تنقض العادة بما هو نفس العادة? وهو غير خارج عنها، ولا مميز منها? وقد يتفق في الشعر كلام على منهاج السجع، وليس يسجع عندهم، وذلك نحو قول البحتري:

تَشَكًّى الوَجى، والليلُ ملتبسُ الدجى

 

غُرَيْرِيَّةُ الأنسابِ مَرْتٌ نقيعُـهـا

وقوله:

قريب المدَىَ، حتى يكون إلى الندى

 

عدو البُنَى، حتى يَكُون مَعَـالِـي

قيل في القرآن سجع متداخل

ولآتيت بعضهم يرتكب هذا، فيزعم أنه سجع مداخل، ونظيره من القرآن قوله تعالى: " ثَمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُم تَشَاقُّونَ فِيهِمْ".

وقوله: " أَمَرْنا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا".

وقوله: " أَحَبَّ إِلَيْكُم مِنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ".

وقوله: " وَالتَّوْرَاةَ والاْنجِيلَ، وَرَسُولاً إلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ".

وقوله: " إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي".

الجواب على هذا الاعتراض

ولو كان عندهم سجعاً لم يتحيروا فيه ذلك التحير، حتى سماه بعضهم سحراً، وتصرفوا فيما كانوا يسمونه به، ويصرفونه إليه، ويتهمونه فيه، وهم في الجملة عارفون بعجزهم على طريقه، وليس القوم بعاجزين عن تلك الأساليب المعتادة عندهم، المألوفة لديهم.

والذي تكلمنا به في هذا الفصل كلام على جملة، دون التفصيل، ونحن نذكر بعد هذا في التفصيل ما يكشف عن مباينة ذلك وجوه السجع.

ومن السجع عندهم

ومن جنس السجع المعتاد عندهم قول أبي طالب لسيف بن ذي يزن: " أََنْبَتَكَ مَنْبِتاً طابت أرومتُهُ، وعَزَّت جُرْثُومته، وثَبَتَ أصله، وبَسَقَ فرعُه، ونبت زَرْعه، في أكرم مَوْطِن، وأطيب مَعْدِن". وما يجري هذا المجرى من الكلام.

القرآن مخالف لنحو هذه الطريقة

والقرآن مخالف لنحو هذه الطريقة، مخالفته للشعر وسائر أصناف كلامهم الدائر بينهم. ولا معنى لقولهم: إن ذلك مشتق من ترديد الحمامة صوتها على نسق واحد وروي غير مختلف، لأن ما جرى هذا المجرى لا يبنى على اشتقاق وحده؛ ولو بني عليه لكان الشعر سجعاً، لأن رويه يتفق ولا يختلف، وتتردد القوافي على طريقة واحدة، وأما الأمور التي يستريح إليها الكلام فإنها تختلف.

ربما كان قافية أو فواصل

فربما كان يسمى قافية، وذلك إنما يكون في الشعر،وربما كان ما ينفصل عنده الكلامان يسمى مقاطع السجع. وربما سمي ذلك فواصل، وفواصل القرآن مما هو مختص بها لا شركة بينه وبين سائر الكلام فيها ولا تناسب.

سبب تقديم موسى على هارون أو العكس

وأما ما ذكروه من تقديم موسى على هارون عليهما السلام في موضع، وتأخيره عنه في موضع، لمكان السجع، ولتساوي مقاطع الكلام، فليس بصحيح، لأن الفائدة عندنا غير ما ذكروه، وهي أن إعادة ذكر القصة الواحدة بألفاظ مختلفة تؤدي معنى واحداً، من الأمر الصعب الذي تظهر فيه الفصاحة، وتتبين فيه البلاغة، وأعيد كثير من القصص في مواضع مختلفة، على ترتيبات متفاوتة، ونبهوا بذلك على عجزهم عن الاتيان بمثله، مبتدأ به ومكرراً.

ولو كان فيهم تمكن من المعارضة لقصدوا تلك القصة، فعبروا عنها بألفاظ لهم، تؤدي تلك المعاني وتحويها، وجعلوها بازاء ما جاء به، وتوصلوا بذلك إلى تكذيبه، وإلى مساواته فيما جاء به. كيف وقد قال لهم: " فَلْيَأْتُواْ بِحَدِيثً مِّثْلِهِ إِن كَانُواْ صَادِقِينَ".

فعلى هذا يكون المقصد بتقديم بعض الكلمات وتأخيرها إظهار الإعجاز على الطريقين جميعاً، دون التسجيع الذي توهموه.

قيل القرآن مختلط من أوزان كلام العرب

فإن قال قائل: القرآن مختلط من أوزان كلام العرب، ففيه من جنس خطبهم، ورسائلهم، وسجعهم، وموزون كلامهم الذي هو غير مقفى، ولكنه أبدع فيه ضرباً من الابداع لبراعته وفصاحته.

الجواب على هذا الاعتراض

قيل: قد علمنا أن كلامهم ينقسم إلى: نظم، ونثر، وكلام مقفى غير موزون، ونظم موزون ليس بمقفى كالخطب والسجع، ونظم مقفى موزون له روي.

ومن هذه الأقسام ما هو سجية الأغلب من الناس، فتناوله أقرب، وسلوكه لا يتعذر.

ومنه ما هو أصعب تناولاً كالموزون عند بعضهم أو الشعر عند الآخرين، وكل هذه الوجوه لا تخرج عن أن يقع لهم بأحد أمرين: إما بتعمل وتكلف وتعلم وتصنع، أو باتفاق من الطبع، وقذف من النفس على اللسان للحاجة إليه، ولو كان ذلك مما يجوز اتفاقه من الطبائع، لم ينفك العالم من قوم يتفق ذلك منهم، ويتعرض على ألسنتهم، وتجيش به خواطرهم، ولا ينصرف عنه الكل مع شدة الدواعي إليه، ولو كان طريقه التعلم لتصنعوه ولتعلموه، فالمهلة لهم فسيحة والأمد واسع.

كيف نشأ الشعر عند العرب

وقد اختلفوا في الشعر كيف اتفق لهم? فقد قيل: إنه اتفق في الأصل غير مقصود إليه، على ما يعرض من أصناف النظام في تضاعيف الكلام.. ثم لما استحسنوه واستطابوه، ورأوا أنه تألفه الأسماع، وتقبله النفوس، تتبعوه من بعد وتعملوه.

وحكى لي بعضهم عن أبي عمر غلام ثعلب عن ثعلب: أن العرب تعلم أولادها قول الشعر بوضع غير معقول يوضع على بعض أوزان الشعر كأنه على وزن:

قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل

ويسمون ذلك الوضع المتير واشتقاقه من المتر وهو الجذب أو القطع يقال: مترت الحبل بمعنى قطعته أو جذبته، ولم يذكر هذه الحكاية عنهم غيره فيحتمل ما قاله.

أقوال أخرى في نشأة الشعر

وأما ما وقع السبق إليه فيشبه أن يكون على ما قدمنا أولاً، وقد يحتمل على قول من قال بأن اللغة اصطلاح أنهم تواضعوا على هذا الوجه من النظم.

وقد يمكن أن يقال مثله على المذهب الآخر، وأنهم وقفوا على ما يتصرف إليه القول: من وجوه التفاصح، أو توافقوا بينهم على ذلك.

ويمكن أن يقال: إن التواضع وقع على أصل الباب، وكذلك التوقيف، ولم يقع على فنون تصرف الخطاب، وأن الله تعالى أجرى على لسان بعضهم من النظم ما أجرى، وفطنوا لحسنه فتتبعوه من بعد، وبنوا عليه وطلبوه، ورتبوا فيه المحاسن التي يقع الاضطراب بوزنها، وتهشُّ النفوس إليها، وجمع دواعيهم وخواطرهم على استحسان وجوه من ترتيبها، واختيار طرق من تنزيلها، وعرفهم محاسن الكلام، ودلهم على كل طريقة عجيبة.

أعلمهم الله عجزهم عن القرآن ليكون دلالة على النبوة

ثم أعلمهم عجزهم عن الإتيان بالقرآن، والقدر الذي يتناهى إليه قدرهم، هو ما لم يخرج عن لغتهم، ولم يشذ من جميع كلامهم، بل قد عرض في خطابهم ووجدوا أن هذا إنما تعذر عليهم مع التحدي والتقريع الشديد، والحاجة الماسة إليه، مع علمهم بطريق وضع النظم والنثروتكامل أحوالهم فيه، دلالة على أنه اختص به، ليكون دلالة على النبوة، ومعجزة على الرسالة: ولولا ذلك لكان القوم إذا اهتدوا في الابتداء إلى وضع هذه الوجوه التي يتصرف إليها الخطاب على براعته وحسن انتظامه، فلأن يقدروا بعد التنبيه على وجهه، والتحدي إليه، أولى أن يبادروا إليه، لو كان لهم إليه سبيل.

لو كان أمر القرآن كما قال المعترض لم يتحيروا في أمرهم

فلو كان الأمر على ما ذكره السائل لوجب أن لا يتحيروا في أمرهم، ولا تدخل عليهم شبهة فيما نابهم، ولكانوا يسرعون إلى الجواب، ويبادرون إلى المعارضة، والأسباب التي لا يحتاج إليها، فيكثر فيها من شعر ورجز، ونجد من يعينه على نقله عنه، على ما قدمنا ذكره: من وصف الإبل، ونتاجها، وكثير من أمرها، لا فائدة في الاشتغال به في دين ولا دنيا.

إنهم كانوا يتفاخرون باللسن والذلاقة فلماذا يتحيرون

ثم كانوا يتفاخرون باللسن والذلاقة والفصاحة والدراية، ويتنافرون فيه، وتجري بينهم فيه الأسباب المنقولة في الآثار على ما لا يخفى على أهله.. فاستدللنا بتحيرهم في أمر القرآن على خروجه عن عادة كلامهم، ووقوعه موقعاً يخرق العادات، وهذه سبيل المعجزات.

الفواصل لا تدخل في باب السجع

فبان بما قلنا أن الحروف التي وقعت في الفواصل موقع النظائر التي تقع في الأسجاع، لا يخرجها عن حدها، ولا يدخلها في باب السجع. وقد بينا أنهم يذمون كل سجع خرج عن اعتدال الأجزاء، فكان بعض مصاريعه كلمتين، وبعضها تبلغ كلمات، ولا يرون في ذلك فصاحة، بل يرونه عجزاً..

لو رأوا أن ما تُلِيَ عليهم هو سجع لعارضوه

فلو رأوا أن ما تُلِيَ عليهم من القرآن سجع لقالوا: نحن نعارضه بسجع معتدل، فنزيد في الفصاحة على طريقة القرآن، ونتجاوز حده في البراعة والحسن. ولا معنى لقول من قدر أنه ترك السجع تارة إلى غيره ثم رجع إليه، لأن ما تخلل بين الأمرين يؤذن بأن وضع الكلام غير ما قدروه من التسجيع، لأنه لو كان من باب السجع لكان أرفع نهاياته وأبعد غاياته.

لابد لمن جوّز السجع أن يسلم بقول الصرفة

ولابد لمن جوز السجع فيه وسلك ما سلكوه من أن يسلم ما ذهب إليه النظّام، وعباد بن سلمان، وهشام الفوطي، ويذهب مذهبهم في أنه ليس في نظم القرآن وتأليفه إعجاز، وأنه يمكن معارضته، وإنما صرفوا عنه ضرباً من الصرف. ويتضمن كلامه تسليم الخبط في طريقة النظم، وأنه منتظم من فرق شتى، ومن أنواع مختلفة، ينقسم إليها خطابهم، ولا يخرج عنها، ويستهين ببديع نظمه، وعجيب تأليفه، الذي وقع التحدي إليه.

وكيف يعجزهم الخروج عن السجع، والرجوع إليه، وقد علمنا عادتهم في خطبهم وكلامهم، أنهم كانوا لا يلزمون أبداً طريقة السجع والوزن? بل كانوا يتصرفون في أنواع مختلفة، فإذا ادعوا على القرآن مثل ذلك لم يجدوا فاصلة بين نظمي الكلامين.

الفصل السابع

في ذكر البديع من الكلام

هل إعجاز القرآن لما تضمن من البديع?

إن سأل سائل فقال: هل يمكن أن يعرف إعجاز القرآن من جهة ما يتضمنه من البديع? قيل: ذكر أهل الصنعة، ومن صنف في هذا المعنى، من صنعة البديع ألفاظاً نحن نذكرها، ثم نبين ما سألوا عنه، ليكون الكلام وارداً على أمر مبين مقرر، وباب مصور.

الاستعارة

من البديع في القرآن

ذكروا أن من البديع في القرآن: قوله عز ذكره " واخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ".

وقوله: " وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلّيٌّ حكيم"، وقوله: " واشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً".

وقوله: " وَآيَةٌ لَّهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ فَإِذَا هُم مُّظْلِمُونَ".

وقوله: " أَوْ يأتيهم عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ".

وقوله: " نُورٌ عَلَى نُورٍ".

البديع من الكلمات الجامعة

وقد يكون البديع من الكلمات الجامعة الحكيمة كقوله: " وَلَكُم في في الْقِصَاصِ حَيَاةٌ".

وفي الألفاظ الفصيحة كقوله: " فَلَمَّا اسْتَيْأَسُواْ مِنْهُ خَلَصُواْ نَجِيَّاً".

وفي الألفاظ الالهية كقوله: " وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ"، وقوله: " وَمَا بِكُمْ من نعمة فَمِنَ اللَّه"، وقوله: " لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوُمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ".

من البديع من قول النبي

ويذكرون من البديع من قول النبي صلى الله عليه وسلم : " خيرُ الناسِ رجلْ ممسك بعنان فرسه في سبيل الله كلما سمع هيعةً طار إليها"، وقوله: " ربنا تقبل توبتي واغسل حوبتي"، وقوله: " غلب عليكم داء الأمم قبلكم: الحسد والبغضاء، وهي الحالقة حالقة الدين لا حالقةُ الشعر"، وكقوله: " الناسُ كإبل مائةٍ لا تجد فيها راحلةً"، وكقوله " وهل يكبُّ الناسَ على مناخرهم في نار جهنم إلا حصائد ألسنتهم"، وكقوله: " إن مما يُنبت الرَّبيع ما يقتُلُ حبطاً أو يُلِمُّ".

من قول أبي بكر الصديق رضي الله عنه

وكقول أبي بكر الصديق رضي الله عنه في كلام له قد نقلناه بعد هذا على وجهه وقوله لخالد بن الوليد: " احرصْ على الموت توهبْ لك الحياة"، وقوله: " فِرَّ من الشَرَفِ يتبعكَ الشرفُ".

من قول علي بن أبي طالب رضي الله عنه

وكقول علي بن أبي طالب رضي الله عنه وكرم وجهه في كتابه إلى ابن عباس وهو عامله على البصرة: " أرغب راغبهم واحلُلْ عُقْدَةَ الخوفِ عنهم"، وقوله: حين سئل عن قول النبي صلى الله عليه وسلم : " إنما قال ذلك والدين في قُلَّ فأما وقد اتسع نطاق الاسلام فكلُّ امرىءٍ وما اختار".

وسأل علي رضي الله عنه بعض كبراء فارس عن أحمد ملوكهم عندهم فقال: " لأردشير فضيلةُ السبقِ غير أن أحمدهم أنوشروان، قال: فأي أخلاقه كان أغلب عليه? قال: الحلم والأناة. فقال علي رضي الله عنه: " هما تَوْأَمانِ يُنْتِجُهُما عُلُو الهِمّة".

وقال: " قيمةُ كل امرىءٍ ما يُحسنُ"، وقال: " العلم قُفْلٌ ومفتاحه المسألة".

أقوال بديعة أخرى

وكتب خالد بن الوليد إلى مرازبة فارس: " أما بعد فالحمد لله الذي قضَّ خَدَمتكم وفرَّقَ كلمتكم" والخدمة الحلقة المستديرة ولذلك قيل للخلاخيل خِدام.

وقال الحجاج: " دلوني على رجل سمينِ الأمانة".

ولما عقدت الرئاسة لعبد الله بن وهب الراسبي على الخوارج أرادوه على الكلام، فقال: " لا خير في الرأي الفطير" وقال: " دعوا الرأي يُغِبُّ".

وقال أعرابي في شكر نعمة: " ذاك عُنْوانُ نِعمة الله عز وجل".

ووصف أعرابي قوماً فقال: " إذا اصطفوا سفرت بينهم السهام وإذا تصافحوا بالسيوف قعد الحِمام".

وسئل أعرابي عن رجب فقال: " صَفِرَتْ عِيابُ الوُدِّ بيني وبينه بعدَ امتلائِها، واكفَهَرَّتْ وجوهٌ كانت بمائِها".

وقال آخر: " من ركب ظَهْرَ الباطلِ نزل دارَ النَّدامة".

وقيل لرؤبة: كيف خلَّفتَ ما وراءك? فقال: " والترابُ يابِس، والمالُ عابس".

من البديع في الشعر

ومن البديع في الشعر طرق كثيرة قد نقلنا منها جملة لتستدل بها على ما بعدها، فمن ذلك قول امرىء القيس:

وقد أغتِدي والطيرُ في وكناتها

 

بمنْجردٍ قَيْدِ الأوابدِ هَـيْكَـلِ

قوله: " قيد الأوابد" عندهم من البديع ومن الاستعارة، ويرونه من الألفاظ الشريفة، وعنى بذلك أنه أرسل هذا الفرس على الصيد صار قيداً لها، وكانت بحالة المقيد من جهة سرعة إحضاره واقتدى به الناس، واتبعه الشعراء فقيل: " قيدُ النواظر " و" قيدُ الألحاظ " و" قيد الكلام " و" قيد الحديث " و" قيد الرهان ".

وقال الأسود بن يعفر:

بمُقَلَّصٍ عَتِيدٍ جَهِيزٍ شـده

 

قيدُ الأوابد والرهان جواد

وقال أبو تمام:

لها منظر قيدُ الأوابـدِ لـم يَزَل

 

يروحُ ويغدو في خفارته الحُبُّ

وقال آخر:

ألحاظُهُ قيدُ عيونِ الورى

 

فليس طَرُفٌ يَتَـعَـدَّاهُ

وقال آخر:

قَيَّدَ الحُسْنُ عليه الحَدَقَا

وذكر الأصمعي وأبو عبيدة وحماد، وقبلهم أبو عمرو أنه أحسن في هذه اللفظه، وأنه اتبع فيها فلم يلحق وذكروه في باب الاستعارة البليغة. وسماها بعض أهل الصنعة باسم آخر، وجعلوها من باب الارداف، وهو أن يريد الشاعر دلالة على معنى فلا يأتي باللفظ الدال على ذلك المعنى بل بلفظ هو تابع له وردف. وقالوا ومثله قوله:

نَؤُوم الضُحى لم تَنْتَطِقْ عن تَفَضُّلِ

وإنما أراد ترفهها بقوله: " نؤوم الضحى" ومن هذا الباب قول الشاعر:

بعيدةُ مَهوى القُرْط إما لنوفلٍ

 

أبوها وإما عبدِ شمسٍ وهاشمِ

وإنما أراد أن يصف طول جيدها، فأتى بردفه.

ومن ذلك قول امرىء القيس:

وليل كموجِ البحر أرخى سُدُوله

وذلك من الاستعارة المليحة.ويجعلون من هذا القبيل ما قدمنا ذكره من القرآن " وَاشْتَعَلَ الرأسُ شَيباً" " واخْفِضْ لَهما جَنَاحَ الذُلِّ من الرحمةِ".

التشبيه

ومما يعدونه من البديع التشبيه الحسن كقول امرىء القيس:

كأنَّ عُيونَ الوحشِ حول خِبائِنا

 

وأرحُلِنا الجَزْعَ الذي لم يُثَقَّبِ

وقوله:

كأن قلوبَ الطيرِ رطبـاً ويابـسـاً

 

لدى وَكْرِها العُنَّابُ والحَشَفُ البالي

واستبدعوا تشبيهه شيئين بشيئين على حسن تقسيم، ويزعمون أن أحسن ما وجد في هذا للمحدثين قول بشار:

كأنَ مَثَارَ النَّقْع فوقَ رؤَوسِنا

 

وأسيافنا ليلٌ تَهَاوى كواكبُه

من تشبيه امرىء القيس

وقد سبق امرؤ القيس إلى صحة التقسيم في التشبيه، ولم يتمكن بشار إلا من تشبيه إحدى الجملتين بالأخرى دون صحة التقسيم والتفصيل. وكذلك عدوا من البديع قول امرىء القيس في أذني الفرس:

وسَامِعَتَان يُعرَف العِتْقُ فيهـمـا

 

كسامِعَتي مذعورةٍ وسطَ ربَرْبِ.

واتبعه طرفة فقال فيه:

وسامعتان يُعرف العِتْقُ فيهما

 

كسامعتي شاةٍ بحومل مُفْردِ

ومثله قول امرىء القيس في وصف الفرس:

وعينان كالماويَّتَيْنِ ومَحْـجَـرٍ

 

إلى سَنَدٍ مثلِ الصفيح المُنَّصَبِ

من تشبيه طرفة بن العبد

وقال طرفة في وصف عيني ناقته:

وعينان كالماويتين اسـتـكـنـتـا

 

بكهفي حجاجي صخرة قلت مورد

ومن البديع في التشبيه قول امرىء القيس:

له أيطلا ظبيٍ وساقا نعـامةٍ

 

وإرخاء سِرْحانٍ وتقريبُ تَتْفُل

وذلك في تشبيه أربعة أشياء بأربعة أشياء أحسن فيها.

ومن التشبيه الحسن في القرآن قوله تعالى: "وَلَهُ الْجَوارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبحرِ كَالأَعْلاَمِ"، وقوله تعالى: "كَأَنَّهُنَّ بيْضٌ مَّكْنُونٌ" ومواضع نذكرها بعد هذا.

من بديع الاستعارة عند امرىء القيس أرخى الليل سدوله

ومن البديع في الاستعارة قول امرىء القيس:

وليلٍ كموجِ البحرِ أرخى سُدُولُهُ

 

عليَّ بأنواعِ الهُمُومِ ليبـتَـلـي

فقلتُ له لما تَمَطَّى بِصُـلـبِـهِ

 

وأَردَفَ أعجازاً وناءَ بكلكـلِ

وهذه كلها استعارات أتى بها في ذكر طول الليل.

ومن ذلك قول النابغة:

وصدر أراح الليلُ عازبَ هـمِّـهِ

 

تَضَاعفَ فيه الحزنُ من كلِّ جانبِ

فاستعارة من أراحه الراعي إبله إلى موضعها التي تأوي إليها بالليل.

وأخذ منه ابن الدمينة فقال:

اقضى نهاري بالحديث وبالمُنَى

 

ويجمَعُني والهمَّ والليلَ جامعُ

ومن ذلك قول زهير:

صحا القلبُ عن ليلى وأقصَرَ باطلُهْ

 

وعُريَ أفراس الصبا ورَواحِـلُـهْ

سما سمو الماء

ومن ذلك قول امرىء القيس:

سَمَوتُ إليها بعدَ ما نام أهلـهـا

 

سُمُوَّ حبابِ الماء حالاً على حالِ

وأخذه أبو تمام فقال:

سُمُوَّ عُباب الماء جاشت غواربُهْ

وإنما أراد امرىء القيس إخفاء شخصه..

ومن ذلك قوله:

كأني وأصحابي على قرن أغْفَرَا

يريد أنهم غير مطمئنين.

أبدع النابغة في قوله فإنك كالليل الذي هو مدركي

ومن ذلك ما كتب إليَّ الحسن بن عبد الله بن سعيد، قال: أخبرني أبي، قال أخبرنا عسل بن ذكوان، أخبرنا أبو عثمان المازني قال: سمعت الأصمعي يقول: أجمع أصحابنا أنه لم يقل أحسن ولا أجمع من قول النابغة:

فإنكَ كالليلِ الذي هو مـدركـي

 

وإن خلتُ أن المنتأى عنك واسعُ

قال الحسن بن عبد الله: وأخبرنا محمد بن يحيى، أخبرنا عون بن محمد الكندي، أخبرنا قعنب بن محرز قال: سمعت الأصمعي يقول: سمعت أبا عمرو يقول: كان زهير يمدح السوق، ولو ضرب على أسفل قدميه مئتا دفل على أن يقول كقول النابغة:

فإنَّكَ كالليل الذي هو مـدركـي

 

وإن خِلتُ أن المنتأى عنك واسع

لما قال، يريد أن سلطانه كالليل يصل إلى كل مكان. واتبعه الفرزدق فقال:

ولو حملتني الريحُ ثم طلبَتني

 

لكنتُ كشيءٍ أدركني مقادِرُه

فلم يأت بالمعنى ولا اللفظ على ما سبق إليه النابغة، ثم أخذه الأخطل فقال:

وإن أمير المؤمنين وفـعـلَـهُ

 

لكالدهرِ لا عارٌ بما فعل الدهرُ

من بديع الاستعارة في قول للنبي

وقد روي نحو هذا عن النبي صلى الله عليه وسلم : " نُصِرتُ بالرعب، وجُعِل رزقي تحت ظل رمحي، وليدخلنَّ هذا الدين على ما دخل عليه الليلُ"، وأخذه علي بن جبلة فقال:

وما لامرىءٍ حاولته عنك مهـربٌ

 

ولو كان في جوف السماء المطالعُ

بلى هاربٌ لا يهتدي لـمـكـانـه

 

ظلامٌ ولا ضوءٌ من الصبحِ طالـعُ

ومثله قول سلم الخاسر:

فأنت كالدهرِ مبثوثاً حبـائِلُـهُ

 

والدهرُ لا ملجأ منه ولا هَرَبُ

ولو ملكتُ عِنانَ الريح أصرفُهُ

 

في كل ناحيةٍ ما فاتك الطَلَبُ

فأخذه البحتري فقال:

ولو أنهم ركبوا الكواكبَ لم يكنْ

 

ينجِّيهُمُ عن خوفِ بأسك مَهْرَبُ

ومن بديع الاستعارة قول زهير

فلما وردن الماء زُرقاً جمامـه

 

وضعن عِصيّ الحاضرِ المتخيّمِ

وقول الأعشى:

وإن عتاقَ العِيسِ سوف يزوركم

 

ثناءٌ على أعجازِهنَّ مُعَـلَّـقُ

ومنه أخذ نصيب فقال:

فعاجوا فأَثْنَوا بالذي أنت أهلُـهُ

 

ولو سكتوا أثنت عليك الحقائبُ

ومن ذلك قول تأبط شراً:

فخالط سهل الأرضِ لم يكدح الصفا

 

به كدحةً والموتُ خزيانُ ينـظـرُ

من الاستعارة في القرآن

ومن الاستعارة في القرآن كثير، كقوله: "وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكْ" يريد ما يكون الذكر عنه شرفاً: وقوله: "صِبْغَةَ اللَّه وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً"، قيل دين الله أراد.

وقوله: "اشتَرَوُاْ الضَّلاَلَة بِالهُدَى، فَمَا رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ".

الغلو

ومن البديع عندهم الغلو: كقول النَّمِر بن تَوْلب:

أبقى الحوادثُ والأيامُ من نَمِرٍ

 

إسنادَ سيفٍ قديمٍ أثـره بـادي

تظلُ تحفرُ عنه إن ضربتَ بِهِ

 

بعد الذراعين والقيدين والهادي

وكقول النابغة:

تقدُّ السلوقيّ المضاعف نسجه

 

ويُوقدن بالصُّفّاح نار الحُباحب

وكقول عنترة:

فازورَّ من وَقْعِ القنا بلبابِهِ

 

وشكا إليّ بعبرةٍ وتحمحمِ

وكقول أبي تمام:

لو يعلمِ الركنُ من قد جاء يلثمُه

 

لخرَّ يلثمُ منه موطِىءَ القَـدَمِ

وكقول البحتري:

ولو أن مشتاقاً تَكَلَّفَ فوق ما

 

في وسعه، لمشى إليك المنبرُ

من الغلو في القرآن

ومن هذا الجنس في القرآن: "يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِن مَّزِيدٍ".

وقوله: "إِذَا رَأَتْهُم مِن مَّكَانٍ بَعيدٍ سَمِعُواْ لَها تَغَيُّظاً وَزَفِيراً" وقوله: "تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ".

المماثلة

ومما يعدونه من البديع المماثلة. وهو ضرب من الاستعارة، وذلك أين يقصد الإشارة إلى معنى، فيضع ألفاظاً تدل عليه، وذلك المعنى بألفاظه مثال للمعنى الذي قصد الإشارة إليه، نظيره من المنثور أن يزيد بن الوليد بلغه أن مروان بن محمد يتلكأ عن بيعته، فكتب إليه: "أما بعد فإني أراك تُقَدِّمُ رِجْلاً وتؤخرُ أخرى فاعتمِدْ على أيتهما شِئْتً".

وكنحو ما كتب به الحجاج إلى المهلب: "فإن أنت فعلتَ ذاك وإلا أشرعتُ إليك الرمح"، فأجاب المهلب: "فإن أشرع الأميرُ الرمحَ قلبتُ إليه ظَهْرَ المِجَنّ"، وكقول زهير:

ومن يعصِ أطرافَ الزِّجاج فإنه

 

يُطيع العوالي ركبت كُلَّ لَهْـذَمِ

وكقول امرىء القيس:

وما ذرفت عيناكِ إلا لتضربي

 

بسهميكِ في أعشارِ قلبٍ مُقَتَّلِ

وكقول عمرو بن معدي كرب:

فلو أنَّ قومي أنطقتني رماحُهُمْ

 

نطقْتُ، ولكنَّ الرماح أجرَّتِ

وكقول القائل:

بني عمنا لا تذكروا الشعرَ بعدَما

 

دفنتم بصحراءِ الغميرِ القوافـيا

وكقول الآخر:

أقول وقد شَدُّوا لساني بنسعةٍ

 

أمعشرَ تيمٍ أطلقُوا عن لِسَانيا

من المماثلة في القرآن

ومن هذا الباب في القرآن كثير، كقوله: "فَمَا أَصْبَرهُمْ عَلَى النَّارِ".

وكقوله: "وَثِيابَكَ فَطَهِّر" قال الأصمعي: أراد البدن، قال: وتقول العرب، "فدى لك ثوباي" يريد نفسه، وأنشد:

ألا أبلغ أبا حفـصٍ رَسُـولا

 

فدى لك من أخي ثقةٍ إِزاري

المطابقة

ويرون من البديع أيضاً ما يسمونه المطابقة، وأكثرهم على أن معناها أن يذكر الشيء وضده: كالليل والنهار، والسواد والبياض، وإليه ذهب الخليل بن أحمد والأصمعي، ومن المتأخرين عبد الله بن المعتز، وذكر أن المعتز من نظائره من المنثور ما قاله بعضهم: "أتيناك لتسلك بنا سبيل التوسع فأدخلتنا في ضيق الضمان".

المطابقة في القرآن

ونظيره من القرآن: "وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ".

وقوله: "يُخْرِجُ الْحيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنِ الْحَيِّ" وقوله: "يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيلِ" ومثله كثير جداً.

من فن المطابقة عند النبي

وكقول النبي صلى الله عليه وسلم للأنصار: "إنكم تكثُرُون عندَ الفَزَعِ وَتقِلُّونَ عند الطَمَعِ".

تعريف آخر للمطابقة

وقال آخرون: بل المطابقة أن يشترك معنيان بلفظة واحدة، وإليه ذهب قدامة بن جعفر الكاتب، فمن ذلك قول الأفوه الأودي:

وأقطعُ الهَوْجَل مستأنسـا

 

بهوجلَ مستأنس عنتريس

عنى بالهوجل الأول الأرض وبالثاني الناقة. ومثله قول زياد الأعجم:

وَنُبِّئْتُهُمُ يستنظرون بكاهلٍ

 

وللؤمِ فيهم كاهلٌ وسنامُ

ومثله قول أبي داود:

عهدت لها مـنـزلاً دائراً

 

وآلاً على الماءِ يحمِلْنَ آلا

فالآل الأول: أعمدة الخيام تنصب على البئر للسقي، والآل الثاني السراب.

ابن قدامة لا يفسر المطابقة باجتماع الشيء وضده

وليس عنده قول من قال: "المطابقة إنما تكون باجتماع الشيء وضده" بشيء... ومن المعنى الأول قول الشاعر:

أهينُ لهم نفسي لأُّكرمها بهـم

 

ولن تُكرم النفسُ التي لا تُهينها

ومثله قول امرىء القيس:

وتردى على صُم صِلاب ملاطِسٍ

 

شديداتِ عَقد لـينـاتِ مِـتـان

وكقول النابغة:

ولا يحسبون الخير لا شر بعـده

 

ولا يحسبون الشرَّ ضربةَ لازبِ

اجتماع طباقين في بيت واحد

كقول زهير وقد جمع فيه طباقين:

بعزمة مأمورٍ مطـيعٍ وآمـرٍ

 

مُطاع، فلا يُلفى لحزمهمُ مثلُ

وكقول الفرزدق:

والشيب ينهض في الشباب كأنه

 

ليلٌ يصيحُ بجانـبـيه نـهـارُ

اجتماع ثلاث تطبيقات في بيت واحد

ومما قيل فيه ثلاث تطبيقات قول جرير:

وباسطِ خيرٍ فيكمُ بيمينـه

 

وقابض شر عنكمُ بشماليا

وكقول رجل من بلعنبر:

يَجزون من ظلم أهل الظلم مغفرةً

 

ومن إِساءة أهل السوء إحسانـا

وروي عن الحسن بن علي رضي الله عنهما أنه تمثل بقول القائل:

فلا الجود يُفْني المالَ والجَدُّ مقبلٌ

 

ولا البخلُ يُبقي المال والجَدُّ مُدْبرُ

وكقول الآخر:

فسِرّي كإعلاني وتلك سجيتي

 

وظُلمة ليلي مثلُ ضوءِ نهاريا

وكقول قيس بن الخطيم:

إذا أنت لم تنفع فضُرَّ، فإنمـا

 

يُرَجَّى الفتى كيما يضرَّ وينفعا

وكقول السموأل:

وما ضَرَّنا أنا قليلٌ وجارُنـا

 

عزيزٌ، وجارُ الأكثرين ذليلُ

فهذا باب يرونه من البديع.

التجنيس

وباب آخر وهو التجنيس، ومعنى ذلك أن تأتي بكلمتين متجانستين.

التجنيس أن تشترك الكلمات في الحروف

فمنه ما تكون الكلمة تجانس الأخرى في تأليف حروفها وإليه ذهب الخليل.

التجنيس أن تشترك اللفظتان في الاشتقاق

ومنهم من زعم أن المجانسة أن تشترك اللفظتان على جهة الاشتقاق، كقوله عز وجل: "فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدّينِ الْقَيِّمِ".

وكقوله: "وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَان" وكقوله: "يَا أَسَفَا عَلَى يُوسُفَ".

وكقوله: "الَّذِينَ آمنُوْا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُم بظُلُمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ".

وكقوله: "وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ".

التجنيس في أقوال النبيً

وكقول النبي صلى الله عليه وسلم: "أَسَلمُ سالمها الله، وغِفارُ غَفَرَ الله لها، وعصيةُ عصتِ الله ورسُوله".

وكقوله: الظُلمُ ظُلُماتُ يومَ القيامةِ".

وقوله: " لا يكونُ ذو الوجهين وجيهاً عندَ الله".

أمثله أخرى من التجنيس

وكتب بعض الكتاب: "العُذْرُ مع التعذرِ واجبٌ فرأيك فيه".

وقال معاوية لابن عباس " ما لكم يا بني هاشم تُصابون في أبصاركم? فقال: كما تصابون في بصائركم".

وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "هاجِروا ولا تهجُرُوا".

أمثلة من التجنيس في الشعر

ومن ذلك قول قيس بن عاصم:

ونحن حفزنا الحوفزان بطـعـنةٍ

 

كسته نجيعاً من دم الجوفِ أشكلا

وقال آخر:

أملَّ عليها بالبِلى الملوان

وقال الآخر:

وذاكمُ أنَّ ذُل الجار حالفكم

 

وأن أنفَكُمُ لا تعرف الأَنَفَا

وكتب إلي بعض مشايخنا قال: أنشدنا الأخفش عن المبرد عن التوزي:

وقالوا: حمامات فَحُمَّ لقـاؤهـا

 

وطَلْحٌ فزيرت والمطي طُلوحُ

عُقاب بأعقاب من النأي بعدمـا

 

جرت نيةٌ تُنسي المحبَّ طروح

وقال صِحابي: هدهدٌ فوق بانةٍ

 

هُدى وبيانٌ بالنـجـاح يلـوح

وقالوا: دمٌ، دامت مواثيقُ عهده

 

ودام لنا حُسنُ الصفاء صـريح

وقال آخر:

أقبلن من مصر يبارين البري

وقال القطامي:

ولما ردّها في الشَّول شالت

 

بذِيَّالٍ يكون لها لـفـاعـا

قد يكون التجنيس بزيادة حرف أو نحوه

وقد يكون التجنيس بزيادة حرف أو ما يقارب ذلك، كقول البحتري:

هل لما فات من تلاق تلافٍ

 

أما لشاكٍ من الصبابة شافِ

وقال ابن مقبل:

يمشين هَيْلَ النقا مالت جوانبه

 

ينهالُ حيناً وينهاهُ الثرى حينا

وقال زهير:

هم يضربون حَبِيك البيض إذا لحِقوا

 

لا ينكِلون إذا ما استلحَمُوا وحمـوا

ومن ذلك قول أبي تمام:

يمدُّون من أيدٍ عواصٍ عواصـمٍ

 

تصول بأسيافٍ قواضٍ قواضبُ

وأبو نواس يقصد في مصراعي مقدمات شعره هذا الباب كقوله:

ألا دارِها بالماء حتى تلينَـهـا

 

فلن تُكرِمَ الصهباءَ حتى تهينَها

وكذلك قوله:

ديارُ نـوارٍ مـا ديارُ نـوارِ

 

كسونك شجواً هُن منه عَوَارِ

وكقول ابن المعتز:

سأثني على عهد المطيرةِ والقصيرِ

 

وأدعو لها بالساكنين وبالقـطـرِ

وكقوله:

هي الدارُ إلا أنها منهم قَفْرُ

 

وأني بها ثاوٍ وأنهمُ سَفْـرُ

وكقوله:

للأمانـي حـديثٌ يغـرُّ

 

ويسوء الدهر من قد يَسرُّ

وكقول المتنبي:

وقد أراني الشبابُ الروحَ في بدني

 

وقد أراني المشيبُ الروح في بدلي

من التجنيس في القرآن الكريم

وقد قيل إن من هذا القبيل قوله عز وجل: "خُلِقَ الإنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُورِيكُمْ آيَاتي فَلاَ تَسْتَعْجِلُونِ".

وقوله: "قُلِ اللَّهِ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَّهُ دِيني فَاعْبدُواْ مَا شِئْتُم مِنْ دُونِهِ".

المقابلة

ويعدون من البديع المقابلة، وهي: أن يوفق بين معانٍ ونظائرها والمضاد يضده، وذلك مثل قول النابغة الجعدي:

فتى تَمَّ ما يَسُـرُّ صـديقَـهُ

 

على أن فيه ما يَسوءُ الأعاديا

وقال تأبط شرّاً:

أهزُّ به في ندوة الحي عِطْـفَـهُ

 

كما هزّ عطفي بالهجان الأواركُ

وكقول الآخر:

وإذا حديثٌ ساءني لم أكتئبْ

 

وإذا حديث سَرَّني لم أُسْرَرِ

وكقول الآخر:

وذي اخوة قَطَّعْت أقرانَ بينهِمِ

 

كما تزكوني واحداً لا أخا ليا

المقابلة في القرآن الكريم

ونظيره في القرآن: "ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ. ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنكُم بِرَبِهّمْ يُشْرِكُونَ".

الموازنة

ويعدون من البديع الموازنة وذلك كقول بعضهم: اصبر على حر اللقا ومضض النزال وشدة المصارع، وكقول امرىء القيس:

سليم الشظا عبل الشوى شنج النسا

الموازنة في القرآن الكريم

ونظيره في القرآن: "والسَّمَاء ِ ذاتِ البُرُوجِ. واليومِ الموعُود وشاهِدٍ ومَشْهُودٍ".

المساواة

ويعدون من البديع المساواة وهي أن يكون اللفظ مساوياً للمعنى لا يزيد عليه ولا ينقص عنه، وذلك يعد من البلاغة، وذلك كقول زهير:

ومهما تكُنْ عند امرىءٍ من خليقةٍ

 

وإن خالها تخفَى على الناس تُعْلَمِ

وكقول جرير:

فلو شاء قومي كان حلميَ فيهـمُ

 

وكان على جُهّال اعدائِهم جهلي:

كقول الاخر :

اذا انت لم تقصر عن الجهل والخنا

 

اصبت حليما او اصابك جـاهـل

كقول الهذلي :

فلا تجزَعَنْ عن سُنَّةٍ أنت سِرتها

 

وأولُ راضٍ سيرةَ من يسيرُها

وكقول الآخر:

فإن هم طاوعوكِ فطـاوِعـيهـم

 

وإن عاصَوك فاعصي من عصاكِ

ونظير ذلك في القرآن كثير.

الإشارة

ومما يعدونه من البديع الإشارة وهو اشتمال اللفظ القليل على المعاني الكثيرة، وقال بعضهم في وصف البلاغة: لمحة دالة. ومن ذلك قول طرفة:

فظلَّ لنا يومٌ لذيذٌ بنـعـمةٍ

 

فقل في مقيلٍ نحسُهُ متغيَّبُ

وكقول زيد الخيل:

فخيبة من يخيب علي غَنيّ

 

وباهلةَ بن أعصَر والرّباب

من الإشارة في القرآن الكريم

ونظيره من القرآن: "ولو أن قُرآناً سُيِّرَتْ به الجِبالُ أو قُطِّعَتْ به الأرضُ أو كُلِّمَ بهِ الموتَى"، ومواضع كثيرة.

المبالغة والغلو

ويعدون من البديع المبالغة والغلو والمبالغة تأكيد معاني القول وذلك كقول الشاعر:

ونكرِمُ جارَنا ما كان فينـا

 

ونُتبعُهُ الكرامَةَ حيثُ مالا

ومن ذلك قول الآخر:

وهم تركُوك أسْلحَ من حُبارى

 

رأت صقراً، وأشْرَدَ من نعامِ

فقوله "رأت صقراً مبالغة".

ومن الغلو قول أبي نواس:

توهمتها في كأسها فكـأنـمـا

 

توهمتُ شيئاً ليس يُدركه العقْلُ

فما يرتقي التكييفُ فيها إلى مدى

 

يُحد به إلا ومن قبلِـهِ قـبـلُ

وقول زهير:

لو كان يقعُد فوق الشمس من كرمٍ

 

قومٌ بأولهم أو مجدهـم قـعـدوا

وكقول النابغة:

بلغنا السماء مجدُنا وسناؤنـا

 

وأنّا لنرجو فوق ذلك مظهرا

وكقول الخنساء:

وما بلغت كفُّ امرىءٍ من متناول

 

بها المجد إلا حيثما نلت أطـولُ

وما بلغ المهدون في القول مِدحةً

 

وإن أطنبوا إلا الذي فيك أفضلُ

وقول الآخر:

له هِمَمٌ لا منتهـى لـكـبـارِهـا

 

وهمتُهُ الصُّغرى أجلُّ من الدهـرِ

له راحةٌ لو أن معشـارَ جُـودهـا

 

على البرِّ صار البرُّ أندى من البحرِ

الإيغال

ويرون من البديع الإيغال في الشعر خاصة، فلا يطلب مثله في القرآن، إلا في فواصل... كقول امرىء القيس:

كأن عيونَ الوحشِ حول خِبائنا

 

وأرحلِنا الجزعُ الذي لم يثقب

وقد أوغل بالقافية في الوصف، وأكد التشبيه لها، والمعنى قد يستقل دونها.

التوشيح

ومن البديع عندهم: التوشيح، وهو أن يشيد أول البيت بقافيته وأول الكلام بآخره.. كقول البحتري:

فليس الذي حللته بمحلـل

 

وليس الذي حرمته بحرامِ

ومثله في القرآن: "فَمنَ تَابَ مِنَ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ".

رد العجز على الصدر

ومن ذلك رد عجز الكلام على صدره كقول الله عز وجل: "اُنْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلآخِرَةُ أَكْبرُ دَرَجاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً".

وكقوله: "لاتَفْتَرُوا على الله كذِباً فَيُسْحِتَكُمْ بعذابٍ وقد خابَ من افْتَرى"، ومن هذا الباب قول القائل ذي الرمة:

وإن لم يكن إلا تعللُ ساعةٍ

 

قليلاً فإني نافعٌ لي قليلُها

وكقول جرير:

سقى الرملَ جونٌ مستهلٌ غمامُهُ

 

وما ذاك إلا حُبّ من حلَّ بالرملِ

وكقول الآخر:

يَودُّ الفتى طولَ السلامةِ والغِنى

 

فكيف يرى طولَ السلامةِ يفعلُ

وكقول أبي صخر الهذلي:

عجبتُ لسعي الدهرِ بيني وبينَها

 

فلما انقضى ما بيننا سكنَ الدهرُ

وكقول الآخر:

أصدُّ بأيدي العيس عن قصدٍ أرضِها

 

وقلبي إليها بالـمـودة قـاصـدُ

وكقول عمرو بن معدي كرب:

إذا لم تستطعْ شيئاً فدعْهُ

 

وجاوزْهُ إلى ما تستطيعُ

صحة التقسيم

ومن البديع صحة التقسيم ومن ذلك قول نصيب:

فقال فريقُ القوم: لا، وفريقُـهـم

 

نعم، وفريقٌ قال: ويَحَك ما ندري

وليس في أقسام الجواب أكثر من هذا. وكقول الآخر:

فكأنما فيه نهارٌ سَاطِعٌ

 

وكأنه ليلٌ عليها مظلمُ

وقول المقنع الكندي:

إن يأكلوا لحمي وفْرتُ لحـومَـهـم

 

وإن يهدِموا مجدي بنيتُ لهم مجـدا

وإن ضيعوا غيبي حفظت غُيوبَـهـم

 

وإن هم هَوَوا غيبي هويتُ لهم رُشدا

وإن زجروا طيراً بنحسٍ تَمُّـر بـي

 

زجرتُ لهم طيَراً تمرُّ بهم سَـعـدا

وكقول عروة بن حزام:

بمن لو أراه غائباً لفديتُـهُ

 

ومن لو رآني غائباً لفداني

ونحوه قول الله عز وجل: "اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُم مِنَ الظُّلُماَتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْليَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماَتِ".

صحة التفسير

ونحوه صحة التفسير، كقول القائل:

ولي فرسٌ للحلم بالحلم ملـجـمٌ

 

ولي فرسٌ للجهلِ بالجهل مُسْرَجُ

التكميل والتتميم

ومن البديع التكميل والتتميم كقول نافع بن خليفة:

رجالٌ إذا لم يَقْبَلُوا الحقَّ منـهـمُ

 

ويعطوه عادوا بالسيوفِ القواطع

وإنما تمت جودة المعنى بقوله ويعطوه، كقول الله عز وجل: "إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ"، إلى آخر الآية. ثم قال. "إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ".

الترصيع

ومن البديع الترصيع وذلك من ألوان منها قول امرىء القيس:

محش مخش مقبل مدبر معـاً

 

كتيس ظباء الحلب في العدوان

ومن ذلك كثير من مقدمات أبي نواس:

يا منة امتنها الـسـكـرُ

 

ما ينقضي مني لها الشكرُ

وكقوله وقد ذكرناه قبل هذا:

ما ينقضي مني لها الشكرُ                                 كَسَوْنَكَ شَجْواً هُنَّ منه عَوارِ

الترصيع مع التجنيس

ومن ذلك الترصيع مع التجنيس. كقول ابن المعتز:

ألم تجزع على الربع المحيلِ                وأطلالٍ وآثـارٍ مـحـول

الترصيع مع التجنيس في القرآن

ونظيره من القرآن كقوله: "إِنَّ الَّذينَ اتَّقَواْ إِذا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ، وإخْوَانُهُم يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لاَ يُقْصِرُونَ"، وقوله: "مَا أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ، وَإِنَّ لَكَ لأَجْرَاً غَيْرَ مَمْنُونٍ".

وكقوله: "وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ، وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيرِ لَشَدِيدٌ".

وكقوله: "وَالطُّورِ، وَكِتَابٌ مَّسْطُورٍ".

العكس والتبديل

ومن ذلك العكس والتبديل، كقول الحسن: "إن من خَوَّفَك لتأمنَ خيرممن أمنَّك لتخافَ".

وكقوله: "اللهم اغنني بالفقرِ إليك ولا تُفقِرْني بالاستغناء عنك".

وكقوله: "بع دنياك بآخرتك تربحهما جميعا"، ولا تبعْ آخرتك بدنياك فتخسرهما جميعاً"، وكقول القائل:

وإذا الدرُّ زانَ حسنَ وُجوههٍ                     كان للدر حسنُ وجهِكَ زينا

وقد يدخل في هذا الباب قوله تعالى: "يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيلِ".

الالتفات

ومن البديع الالتفاف، فمن ذلك ما كتب إلى الحسن بن عبد الله العسكري، أخبرنا محمد بن عبد الله الصولي، حدثني يحيى بن علي المنجم عن أبيه عن إسحاق بن إبراهيم قال: قال لي الأصمعي أتعرف التفاتات جرير? قلت: لا، فما هي? قال:

أتنسى إذ تودِّعُنا سليمـى               بفرعِ بشامةٍ? سُقي البشامُ

ومعنى الالتفاتات: أنه اعترض في الكلام قوله سقيت الغيث، ولو لم يعترض لم يكن ذلك التفاتاً وكان الكلام منتظماً، وكان يقول "متى كان الخيام بذي طلوح أيتها الخيام"، فمتى خرج عن الكلام الأول ثم رجع إليه على وجه يلطف كان ذلك التفاتاً. ومثله قول النابغة الجعدي:

ألا زعمت بنو سعد بأني               ألا كذبوا كبيرُ السنِّ فإني

ومثله قول كثير:

لو أن الباذلين وانت منهم              رأوك تعلمو منك المطالا

 

 

 

وكقول ابن هرمة :

ليت حظي كلحظة العين منها      وكثير منها القليل المهـنـا

الرجوع

ومن الرجوع قول القائل:

بكل تداوينا فلم يُشْـفَ مـا بـنـا

 

على أن قُرب الدار خيرٌ من البعد

وقال الأعشى:

صرمت ولم أصرمْكُمُ، وكصارم

 

أخٍ قد طوى كشحاً وآبَ ليذهبا

وكقول بشار:

لي حيلةٌ فـيمـن ينـمُّ

 

وليس في الكذاب حِيلَه

من كان يخلُقُ ما يقـو

 

لُ فحيلتي فيه قليلـه

وقال آخر:

وما بي انتصارٌ إن غدا الدهر ظالمي

 

عليَّ بلى إن كان من عندك النصرُ

التذييل

وباب آخر من البديع يسمى التذييل، وهو ضرب من التأكيد، وهو ضد ما قدمنا ذكره من الإشارة كقول أبي داود:

إذا ما عقـدنـا لـه ذمةً

 

شددنا العِنَاجَ وعقدَ الكَرَب

وأخذه الحطيئة فقال:

فدعوا نَزَال فكنتَ أولَ نازلٍوعلام اركبُه اذا لم انزِ ل وكقول جرير :

 

لقد كنت فيها يا فرزدق تابعا

 

وريش الـــذُنـــابـــي تــــابـــــــع لـــــــلـــــــقـــــــوادم

التذييل في القرآن : ومثله قوله عز وجل: "إن فِرْعَونَ علا فِي الأرْضِ وجَعَلَ أهلَهَا شِيَعاً". إلى قوله: "إنه كان من المفْسِدِينَ، ونُرِيدُ أن نَمُّنَّ على الذينَ استضعفوا في الأرْضِ وَنجعَلَهُم أئمَّةَ ونجعَلَهُمُ الوارثين" إلى قوله: "كانوا خَاطئين".

الاستطراد

وباب من البديع يسمى الاستطراد، فمن ذلك ما كتب إليَّ الحسن بن عبد الله قال: أنشد أبو بكر بن دريد، قال: أنشدنا أبو حاتم عن أبي عبيدة لحسان بن ثابت رضي الله تعالى عنه:

السَّمَواتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مِن دَابَّةٍ وَالْملائكَةُ وَهُمْ لاَ يَسْتَكبِرُونَ" كأنه كان المراد أن يجري بقول الأول إلى الأخبار عن أن كل شيء يسجد لله عز وجل، وإن كان ابتداء الكلام في أمر خاص.

التكرار

ومن البديع عندهم التكرار كقول الشاعر:

هلاّ سألت جموعَ كن

 

دةَ يومَ ولّوا أين أينا?

وكقول الآخر:

وكانت فَزارة تَصلى بنا

 

فأولى فزارة أولى لها

التكرار في القرآن

ونظيره من القرآن: " فَإنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسراً".

وكالتكرار في قوله: "قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ" وهذا فيه معنى زائد على التكرار لأنه يفيد الإخبار عن الغيب.

الاستثناء

ومن البديع عندهم ضرب من الاستثناء كقول النابغة:

ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم

 

بِهِنَّ فلولٌ من قراع الكتائبِ

وكقول النابغة الجعدي:

فتـــى كـــمـــلـــت أخـــلاقُـــهُ غــــير أنـــــــه

 

جوادٌ فـــلا يُبـــقـــي مـــن الـــمـــال بـــاقـــــــيا

فتى تَمَّ فيه ما يَسُرُّ صديقَهعلى أن فيه ما يسوءُ الأعاديا وكقول الآخر:

 

 

حليمٌ إذا ما الحلمُ زّيَّنَ أهله

 

مع الـــحـــلـــم فـــي عـــين الـــعـــدو مـــهـــيبُ

وكقول أبي تمام:

تنصل ربها من غير جـرمٍ

 

إليك سوى النصيحةِ والودادِ

ووجوه البديع كثيرة جداً فاقتصرنا على ذكر بعضها ونبهنا بذلك على مالم نذكر كراهة التطويل، فليس الغرض ذكر جميع أبواب البديع.

هل لأبواب البديع فائدة في معرفة الإعجاز?

وقد قدر مقدرون أنه يمكن استفادة إعجاز القرآن من هذه الأبواب التي نقلناها، وأن ذلك مما يمكن الاستدلال به عليه، وليس كذلك عندنا، لأن هذه الوجوه إذا وقع التنبيه عليها أمكن التوصل إليها بالتدريب والتعود والتصنع لها، وذلك كالشع الذي إذا عرف الإنسان طريقه صح منه التعمل له، وأمكنه نظمه. والوجوه التي نقول إن إعجاز القرآن يمكن أن يعلم منها فليس مما يقدر البشر على التصنع له، والتوصل إليه بحال.

ويبين ما قلنا أن كثيراُ من المحدثين قد تصنع لأبواب الصنعة، حتى حشى جميع شعره منها، و، واجتهد ان لا يفوته بيت إلا وهو يملأه من الصنعة . .

قوله:

لو لم يمتْ بين أطرافِ الرماحِ إذاً

 

لمات، إذ لم يمتْ، من شدةِ الحزَنَ

وكقوله:

خشنتِ عليه أختَ بني خشين

وكقوله:

ألا لا يمدّ الدهر كـفـاً بـسـيءٍّ

 

إلى مجتدى نصر فتقطع من الزِند

وقال في وصف المطايا:

لو كان كلّفها "عبيد" حاجة

 

يوماً لزنَّى شدقماً وجديلا

وكقوله:

فضربت الشتاء في أخدعيه

 

ضربة غادرته عوداً رَكُوبا

غلو أبي تمام في الصنعة أعماه عن الصواب

فهذا وما أشبهه إنما يحدث من غلوه في محبة الصنعة، حتى يعميه عن وجه الصواب، وربما أسرف في المطابق والمجانس ووجوه البديع من الاستعارة وغيرها، حتى استثقل نظمه، واستوخم رصعه، وكان التكليف بارداً، والتصرف جامداً، وربما اتفق مع ذلك في كلامه النادر المليح، كما يتفق البارد القبيح.

صنعة البحتري أحسن من صنعة أبي تمام

فأما البحتري فإنه لا يرى في التجنيس ما يراه أبو تمام، ويقل التصنع له، فإذا وقع في كلامه كان في الأكثر حسناً رشيقاً وظريفاً جميلاً، وتصنعه للمطابق كثير حسن، وتعمقه في وجوه الصنعة على وجه طلب السلامة. والرغبة في السلامة، فلذلك يخرج سليماً من العيب في الأكثر.

وأما وقوف الألفاظ به عن تمام الحسنى، وقعود العبارات عن الغاية القصوى، فشيء لابد منه، وأمر لا محيص عنه، وكيف وقد وقف على من هو أجل منه، وأعظم قدراً، في هذه الصنعة، وأكبر في الطبقة: كامرىء القيس وزهير والنابغة، وإلى يومه? ونحن نبين تميز كلامهم، وانحطاط درجة قولهم، ونزول طبقة نظمهم، عن بديع نظم القرآن، في باب مفرد، يتصور به ذو الصنعة ما يجب تصوره، ويتحقق وجه الإعجاز فيه بمشيئة الله وعونه.

لا سبيل إلى معرفة إعجاز القرآن من البديع

ثم رجع الكلام بنا إلى ما قدمناه، من أنه لا سبيل إلى معرفة إعجاز القرآن من البديع الذي ادعوه في الشعر، ووصفوه به؛ وذلك أن هذا الفن ليس فيه ما يخرق العادة، ويخرج عن العرف، بل يمكن استدراكه بالتعلم، والتدرب به، والتصنع له، كقول الشعر، ورصف الخطب، وصناعة الرسالة، والحذق في البلاغة، وله طريق يسلك، ووجه يقصد، وسلم يرتقى فيه إليه، ومثال قد يقطع طالبة عليه.

قد يتعود الأديب على الصنعة فتصبح سليقة

فرب إنسان يتعود أن ينظم جميع كلامه شعراً، أو يتعود أن يكون جميع خطابه سجعاً، أو صنعة متصلة، لا يسقط من كلامه حرف، وقد يبادره به ما قد تعوده.

وأنت ترى أدباء زماننا يضيفون المحاسن في جزء، وكذلك يؤلفون أنواع البارع، ثم ينظرون فيه إذا أرادوا إنشاء قصيدة أو رسالة أو خطبة، فيحشون به كلامهم، ومن كان قد تدرب وتقدم في حفظ ذلك اشتغل عن هذا التصنيف، ولم يحتج إلى تكلف هذا التأليف، وكان ما أشرف عليه من هذا الشأن باسطاً من باع كلامه، وموشحاً بأنواع البديع ما يحاوله من قوله. وهذا طريق لا يتعذر وباب لا يمتنع، وكل يأخذ فيه مأخذاً، ويقف فيه موقفاً على قد ما معه من المعرفة، بحسب ما يمده من الطبع.

القرآن ليس له مثال يحتذي إليه

فأما شأو نظر القرآن فليس له مثال يحتذي إليه، ولا إمام يقتدي به، ولا يصح وقوع مثله اتفاقاً، كما يتفق للشارع البيت النادر، والكلمة الشاردة والمعنى الفذ الغريب، والشيء القليل العجيب، وكما يلحق بعض كلامه بالوحشيات، ويضاف من قوله إلى الأوابد، لأن ما جرى هذا المجرى، ووقع هذا الموقع، فإنما يتفق للشاعر في لمع من شعره، وللكاتب في قليل من رسائله، وللخطيب في يسير من خطبه. ولو كان كل شعره نادراً، ومثلاً سائراً ومعنى بديعاً، ولفظاً رشيقاً، وكل كلامه مملوء من رونقه ومائه، ومملأ ببهجته وحسن روائه، ولم يقع فيه المتوسط بين الكلامين، والمتردد بين الطرفين، ولا البارد المستثقل، والغث المستنكر: لم يبن الإعجاز في الكلام ولم يبن التفاوت العجيب بين النظام والنظام.

وهذه جملة تحتاج إلى تفصيل، ومبهم قد يحتاج في بعض إلى تفسير، وسنذكر ذلك بمشيئة الله وعونه.

اعتراض ورد

ولكن قد يمكن أن يقال في البديع الذي حكيناه وأضفناه إليهم: إن ذلك باب من أبواب البراعة، وجنس من أجناس البلاغة، وأنه لا ينفك القرآن عن فن من فنون بلاغاتهم، ولا وجه من وجوه فصاحاتهم، وإذا أورد هذا المورد ووضع هذا الموضع كان جديراً.وإنما لم نطلق القول إطلاقاً لأنا لا نجعل الإعجاز متعلقاً بهذه الوجوه الخاصة، ووقفاً عليها، ومضافاً إليها، وإن صح أن تكون هذه الوجوه مؤثرة في الجملة، آخذة بحظها من الحسن والبهجة، متى وقعت في الكلام على غير وجه التكلف المستبشع، والتعمل المستشنع.

الفصل الثامن

في كيفية الوقوف على إعجاز القرآن

الأعاجم لا يعرفون إعجاز القرآن

إلا من خلال عجز العرب الفصحاء

قد بينا أنه لا يتهيأ لمن كان لسانه غير العربية، من العجم والترك وغيرهم، أن يعرفوا إعجاز القرآن، إلا أن يعلموا أن العرب قد عجزوا عن ذلك، فإذا عرفوا هذا بأن علموا أنهم قد تحدوا على أن يأتوا بمثله، وقرعوا على ترك الإتيان بمثله، ولم يأتوا به، تبينوا أنهم عاجزون عنه، وإذا عجز أهل اللسان فهم عنه أعجز.

العرب غير الفصحاء كالأعاجم

وكذلك نقول: إن من كان من أهل اللسان العربي، إلا أنه ليس يبلغ في الفصاحة الحد الذي يتناهى إلى معرفة أساليب الكلام، ووجوه تصرف اللغة، وما يعدونه فصيحاً بلغياً بارعاً من غيره، فهو كالأعجمي: في أنه لا يمكنه أن يعرف إعجاز القرآن إلا بمثل ما بينا أن يعرف به الفارسي الذي بدأنا بذكره، وهو ومن ليس من أهل اللسان سواء.

من تناهى في معرفة اللسان العربي يدرك الإعجاز

فأما من كان قد تناهى في كعرفة اللسان العربي، ووقف على طرقها ومذاهبها، فهو يعرق القدر الذي ينتهي إليه وسع المتكلم من الفصاحة، ويعرف ما يخرج عن الوسع، ويتجاوز حدود القدرة، فليس يخفى عليه إعجاز القرآن، كما يميز بين جنس الخطب والرسائل والشعر وكما يميز بين الشعر الجيد والرديء والفصيح والبديع النادر والبارع والغريب. وهذا كما يميز أهل كل صناعة صنعتهم، فيعرف الصيرفي من النقد ما يخفى على غيره، ويعرف البزاز من قيمة الثوب وجودته ما يخفى على غيره.

أهل الصنعة قد يختلفون في التقييم

وإن كان يبقى مع معرفة الشأن أمر آخر، وربما اختلفوا فيه. لأن من أهل الصنعة من يختار الكلام المتين والقول الرصين. ومنهم من يختار الكلام الذي يروق ماؤه وتروع بهجته ورواؤه، ويسلس مأخذه ويسلم وجهه ومنفذه، ويكون قريب المتناول، غير عويص اللفظ، ولا غامض المعنى. كما يختار قوم ما يغمض معناه، ويغرب لفظه، ولا يختار ما سهل على اللسان، وسبق إلى البيان.

قد يفضل العارفون بالصنعة الصدق

وروي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وصف زهيراً فقال: كان لا يمدح الرجل إلا بما فيه، وقال لعبد بني الحسحاس حين أنشده:

كفى الشيب والإسلام للمرء ناهيا

أما إنه لو قلت مثل هذا لأجزتك عليه.

وروي أن جريراً سئل عن أحسن الشعر فقال؛ قوله:

إن الشقي الذي في النار منزلـه

 

والفوز فوز الذي ينجو من النار

كأنه فضَّله لصدق معناه.

منهم من يختار الغلو والإفراط

ومنهم من يختار الغلو في قول الشعر والإفراط فيه حتى ربما قالوا: أحسن الشعر أكذبه كقول النابغة:

يَقُدُّ السلوقِيَّ المضاعفَ نسجُه

 

ويوقد بالصفّاحِ نارَ الحباحبِ

وأكثرهم على مدح المتوسط بين المذهبين في الغلو والاقتصاد، وفي المتانة والسلاسة.

منهم من يختار من كان أكثر صنعة

ومنهم من رأى أن أحسن الشعر ما كان أكثر صنعة، وألطف تعملاً وأن يخير الألفاظ الرشيقة للمعاني البديعة، والقوافي الواقعة... كمذهب البحتري، وعلى ما وصفه عن بعض الكتاب:

في نظام في البلاغة ما شكْ

 

امرؤُ إنـه نـظـام فـريد

وبديع كأنه الزَّهَرُ الـضـا

 

حكُ في رونق الربيعِ الجديد

حُزنَ مستعمل الكلام اختياراً

 

وتجنبْنَ ظلمةَ الـتـعـقـيد

وركبن اللفظ القريبَ فأدرك

 

نَ غايةَ المـرادِ الـبـعـيد

ويرون أن من تعدى هذا كان سالكاً مسلكاً عامياً، ولم يروه شاعراً ولا مصيباً وفيما كتب الحسن بن عبد الله أو أبو أحمد العسكري قال: أخبرني محمد بن يحيى، قال: أخبرني عبد الله بن الحسن قال: قال لي البحتري: دعاني علي بن الجهم فمضيت إليه، فأفضنا في أشعار المحدثين، إلى أن ذكرنا شعر أشجع، فقال لي: إنه يُخْلي، وأعادها مرات، ولم أفهمها، وأنفت أن أسأله عن معناها. فلما انصرفت أفكرت في الكلمة، ونظرت في شعره فإذا هو ربما مرت له الأبيات مغسولة، ليس فيها بيت رائع، وإذا هو يريد هذا بعينه، أن يعمل الأبيات فلا يصيب فيها ببيت نادر، كما أن الرامي إذا رمى برشقه فلم يصب بشيء قيل: قد أخلى.. قال: وكان علي بن الجهم أحسن الناس علماً بالشعر.

منهم من يميل إلى الرصين من الكلام

وقوم من أهل اللغة يميلون إلى الرصين من الكلام، الذي يجمع الغريب والمعاني، مثل أبي عمرو بن العلاء وخلف الأحمر والأصمعي.

منهم من يختار الوحشي

ومنهم من يختار الوحشي من الشعر، كما اختار المفضل للمنصور من المفضليات. وقيل إنه اختار ذلك لميله إلى ذلك الفن.

الشعراء يخالفون اللغويين في تذوق الشعر

وذكر الحسن بن عبد الله أنه أخبره بعض الكتاب عن علي بن العباس قال: حضرت مع البحتري مجلس عبيد الله بن عبد الله بن طاهر: وقد سأل البحتري عن أبي نواس ومسلم بن الوليد أيهما أشعر فقال البحتري أبو نواس أشعر. فقال عبد الله: إن أبا العباس ثعلباً لا يطابقك على قولك ويفضل مسلماً، فقال البحتري: ليس هذا من عمل ثعلب وذويه من المتعاطين لعلم الشعر دون عمله، إنما يعلم ذلك من وقع في سلك الشعر إلى مضايقه، وانتهى إلى ضروراته. فقال عبيد الله: وريت بك زنادي يا أبا عبادة، وقد وافق حكمك حكم أخيك بشار بن برد في جرير والفرزدق أيهما أشعر فقال: جرير أشعرهما، فقيل له بماذا? فقال: لأن جريراً يشتد إذا شاء، وليس كذلك الفرزدق على جرير، فقال: ليس هذا من عمل أولئك القوم، إنما يعرف الشعر من يضطر إلى أن يقول مثله، وفي الشعر ضروب لم يحسنها الفرزدق، ولقد ماتت النوار امرأته فناح عليها بقول جرير:

لولا الحياء لعادني استعبـار

 

ولزرت قبرك والحبيب يزار

وروي عن أبي عبيدة أنه قال للفرزدق: مالك لا تنسب كما ينسب جرير? فغاب حولاً ثم جاء فأنشد:

يا أخت ناجية بن سامة إنـنـي

 

أخشى عليك بني أن طلبوا دمي

اختيار أبي تمام

والأعدل في اختيار ما سلكه أبو تمام، من الجنس الذي جمعه في كتاب الحماسة، وما اختاره من الوحشيات، وذلك أنه تنكر المستنكر الوحشي، والمبتذل العامي، وأتى بالواسطة.

قد يكون الاختيار والتمييز لغرض

وهذه طريقة من ينصف في الاختيار، ولا يعدل به غرض يخص. لأن الذين اختاروا الغريب فإنما اختاروه لغرض لهم في تفسير ما يشتبه على غيرهم، وإظهار التقدم في معرفته وعجز غيرهم عنه، ولم يكن قصدهم جيد الأشعار لشيء يرجع إليها في أنفسها.

خير الكلام ما دل على المراد دون إفراط أو تفريط

ويبين هذا أن الكلام موضوع للإبانة عن الأغراض التي في النفوس، وإذا كان كذلك وجب أن يتخير من اللفظ ما كان أقرب إلى الدلالة على المراد، وأوضح في الإبانة عن المعنى المطلوب، ولم يكن مستكره المطلع على الأذن، ومستنكر المورد على النفس، حتى يتأبى بغرابته في اللفظ عن الإفهام، أو يمتنع بتعويض معناه عن الإبانة. ويجب أن يتنكب ما كان عليه اللفظ مبتذل العبارة، ركيك المعنى، سفسافي الوضع، مجتلب التأسيس على غير أصل ممهد، ولا طريق موطد.

فضلت العربية لاعتدالها

وإنما فضلت العربية على غيرها لاعتدالها في الوضع، ولذلك وضع أصلها على أكثرها بالحروف المعتدلة، فقد أهملوا الألفاظ المستكرهة في نظمها، وأسقطوها من كلامهم، فجرى لسانهم على الأعدل.

أكثر كلا العرب من الثلاثي

ولذلك صار أكثر كلامهم من الثلاثي، لأنهم بدأوا بحرف وسكنوا على آخر وجعلوا حرفاً وصلة بين الحرفين، ليتم الابتداء والانتهاء على ذلك، والثنائي أقل، وكذلك الرباعي، والخماسي أقل، ولو كان كله ثنائياً لتكررت الحروف، ولو كان رباعياً أو خماسياُ لكثرت الكلمات.

أكثر حروف ابتداء السور ثلاثية

وكذلك بني أمر الحروف التي ابتدئ بها السور على هذا، فأكثر هذه السور التي ابتدأت بذكر الحروف ذكر فيها ثلاثة أحرف، وما هو أربعة أحرف سورتان، وما ابتدئ بخمسة أحرف سورتان، فأما ما بدئ بحرف واحد فقد اختلفوا فيه: فمنهم من لم يجعل ذلك حرفاً وإنما جعله اسماً لشيء خاص، ومن جعل حرفاً قال: أراد أن يحقق الحروف مفردها ومنظوها.

ضيق كلام غير العرب

ولضيق ما سوى كلام العرب، أو لخروجه عن الاعتدال، يتكرر في بعض الألسنة الحرف الواحد في الكلمة الواحدة والكلمات المختلفة كثيراً، كنحو تكرر الطاء والسين في لسان يونان، وكنحو الحروف الكثيرة التي هي اسم لشيء واحد في لسان الترك، ولذلك لا يمكن أن ينظم من الشعر تلك الألسنة على الأعاريض التي تمكن في اللغة العربية.

العربية وأشد اللغات تمكناً

والعربية أشدها تمكناً، وأشرفها تصرفاً وأعدلها، ولذلك جعلت حلية لنظم القرآن، وعلق بها الإعجاز، وصارت دلالة في النبوة.

كلما أبان الكلام ما في النفوس كان أشرف

وإذا كان الكلام إنما يفيد الإبانة عن الأغراض القائمة في النفوس. التي لا يمكن التوصل إليها بأنفسها، وهي محتاجة إلى ما يعبر عنها، فما كان أقرب في تصويرها، وأظهر في كشفها للفهم الغائب عنها، وكان مع ذلك أحكم في الإبانة عن المراد، وأشد تحقيقاً في الإيضاح عن الطلب، وأعجب في وضعه، وأرشق في تصرفه، وأبرع في نظمه، كان أولى وأحق بأن يكون شريفاً.

وقد شبهوا النطق بالخط، والخط يحتاج مع بيانه إلى رشاقة وصحة ولطف، حتى يحوز الفضيلة ويجمع الكمال.

وشبهوا الخط والنطق بالتصوير، وقد أجمعوا أن من أحذق المصورين من صور لك الباكي المتضاحك. والباكي الحزين، والضاحك المتباكي، والضاحك المستبشر، وكما أنه يحتاج إلى لطف يد في تصوير هذه الأمثلة، فكذلك يحتاج إلى لطف في اللسان والطبع في تصوير ما في النفس للغير.

في الكلام ما تقصر العبارة فيه وتفضل المعاني أو العكس

وفي جملة الكلام ما تقصر عبارته وتفضل معانيه، وفيه ما تقصر المعاني وتفضل العبارات، وفيه ما يقع كل واحد منهما وفقاً للآخر.

ثم ينقسم ما يقع وفقاً إلى ما يفيدها على تفصيل و إلى ما يفيدها بدونه. وكل واحد منهما قد ينقسم على أن يكون كل واحد منهما بديعاً شريفاً وغريباً لطيفاَ، وقد يكون كل واحد منهما مستجلباً متكلفاً، ومصنوعاً متعسفاً، وقد يكون واحد منهما حسناً رشيقاً وبهيجاً نضيراً، وقد يتفق أحد الأمرين دون الآخر، وقد يتفق أن يسلم الكلام والمعنى من غير رشاقة ولا نضارة في واحد منهما، إنما يميز من يميز، ويعرف من يعرف، والحكم في ذلك صعب شديد، والفضل فيه شأو بعيد.

قلَّ من يميز الكلام

وقد قل من يميز أصناف الكلام، فقد حكي عن طبقة أبي عبيدة وخلف الأحمر وغيرهم في زمانهم أنهم قالوا؛ ذهب من يعرف نقد الشعر.

للكلام وجوه ومن تقدم في صنعته لم تخف عليه وجوهه

وقد بينا قبل هذا اختلاف القوم في الاختيار، وما يجب أن يجمعوا عليه ويرجعوا عند التحقيق إليه، وكلام المقتدر نمط وكلام المتوسع باب، وكلام المطبوع له طريق، وكلام المتكلف له منهاج، والكلام المصنوع المطبوع له باب.

ومتى تقدم الإنسان في هذه الصنعة لم تخف عليه هذه الوجوه، ولم تشتبه عنده هذه الطرق، فهو يميز قدر كل متكلم بكلامه، وقدر كل كلام في نفسه ويحله محله، ويعتقد فيه ما هو عليه، ويحكم فيه بما يستحق من الحكم، وإن كان المتكلم يجود في شيء دون شيء عرف ذلك منه، وإن كان يعم إحسانه عرف.

كل مبدع يجود في فن

ألا ترى أن منهم من يجود في المدح دون الهجو، ومنهم من يجود في الهجو وحده، ومنهم من يجود في المدح والسخف، ومنهم من يجود في الأوصاف، والعالم لا يشذ عنه مراتب هؤلاء، ولا يذهب عليه أقدراهم، حتى أنه إذا عرف طريقة شاعر في قصائد معدودة، فأنشد غيرها من شعره، لم يشك أن ذلك من نسجه، ولم يرتب في أنه من نظمه.

كما أنه إذا عرف خط رجل لم يشتبه عليه خط حيث رآه من بين الخطوط المختلفة، وحتى يميز بين رسائل كاتب وبين رسائل غيره، وكذلك أمر الخطيب، فإن اشتبه عليه البعض فهو لاشتباه الطريقين، وتماثل الصورتين، كما قد يشتبه شعر أبي تمام بشعر البحتري في القليل الذي يترك أبو تمام فيه التصنع، ويقصد فيه التسهل، ويسلك الطريقة الكتابية، ويتوجه في تقريب الألفاظ، وترك تعويض المعاني، ويتفق له مثل بهجة أشعار البحتري وألفاظه.

لا يخفى على أديب أسلوب شاعر مبدع

ولا يخفى على أحد يميز هذه الصنعة سبك أبي نواس، ولا نسج ابن الرومي من نسج البحتري، وينبهه ديباجة شعر البحتري وكثرة مائه وبديع رونقه وبهجة كلامه، إلا فيما يسترسل فيه فيشتبه بشعر ابن الرومي ويحركه ما لشعر أبي نواس من الحلاوة والرقة والرشاقة والسلاسة، حتى يفرق بينه وبين شعر مسلم. وكذلك يميز بين شعر الأعشى في التصرف، وبين شعر امرئ القيس، وبين شعر النابغة وزهير، وبين شعر جرير والأخطل، والبعيث والفرزدق. وكل له منهج معروف، وطريق مألوف.

ولا يخفى عليه رسائل الأدباء

ولا يخفى عليه في زماننا الفصل بين رسائل عبد الحميد وطبقته، وبين طبقة من بعده، حتى إنه لا يشتبه عليه ما بين رسائل ابن العمد، وبين رسائل أهل عصره ومن بعده، ممن برع في صنعة الرسائل، وتقدم في شأوها، حتى جمع فيها بين طرق المتقدمين وطريقة المتأخرين، حتى خلص لنفسه طريقة، وأنشأ لنفسه منهاجاً، فسلك تارة طريقة الجاحظ، وتارة طريقة السجع، وتارة طريقة الأصل، وبرع في ذلك باقتداره، وتقدم بحذقه، ولكنه مع ذلك على أهل الصنعة طريقة من طريق غيره، وإن كان قد يشتبه البعض، ويدق القليل، وتغمض الأطراف، وتشذ النواحي.

قد يتقارب سبك نفر من الشعراء فيشتبه

وقد يتقارب سبك نفر من شعراء عصر، وتتدانى رسائل كتاب دهر، حتى تشتبه اشتباهاً شديداً، وتتماثل تماثلاً قريباً، فيغمض الفصل.

وقد يتشاكل الفرع والأصل، وذلك فيما يتعذر إدراك أمده، ولا يتصعب طلاب شأوه، ولا يتمنع بلوغ غايته، والوصول إلى نهايته. لأن الذي يتفق من الفصل بين أهل الزمان، إذا تفاضلوا وتفاوتوا في مضمار، فصل قريب، وأمر يسير.

لا يخفى سارق الألفاظ والمعاني

وكذلك لا يخفى عليهم معرفة سارق الألفاظ وسارق المعاني، ولا من يخترعها ولا من يلم بها، ولا من يجاهر بالأخذ ممن يكاتم، ولا من يخترع الكلام اختراعاً ويبتدهه ابتداهاً، ممن يروى فيه، ويجيل الفكر في تنقيحه، ويصبر عليه حتى يتخلص له ما يريد، وحتى يتكرر نظره فيه.

عبيد الشعر والمطبوعون

قال أبو عبيدة: سمعت أبا عمرو يقول: زهير والحطيئة وأشباههما عبيد الشعر لأنهم نقحوه ولم يذهبوا فيه مذهب المطبوعين، وكان زهير يسمى كبر شعره الحوليات المنقحة. وقال عدي بن الرقاع:

وقصيدة قد بت أجمع بينهـا

 

حتى أقوِّم ميلها وسنـادهـا

نظر المثقف في كعوب قناته

 

حتى يقيم ثقافه مُـنـآدهـا

وكقول سويد بن كراع:

أبيت بأبواب القوافـي كـأنـمـا

 

أصادي به سرباً من الوحش نُزَّعا

من الشعراء من يعرف بالبديهة

ومنهم من يعرف بالبديهة، وحدة الخاطر، ونفاذ الطبع، وسرعة النظم، يرتجل القول ارتجالاً، ويطبعه عفواً صفواً، فلا يقعد به عن قوم قد تعبوا وكدوا أنفسهم وجاهدوا خواطرهم.

وكذلك لا يخفى عليهم الكلام العلوي، واللفظ المملوكي، كما لا يخفى عليهم الكلام العامي، واللفظ السوقي.

لا يخفى ما يختص به كل فاضل

ثم تراهم ينزلون الكلام تنزيلاً، ويعطونه كيف تصرف حقوقه، ويعرفون مراتبه، فلا يخفى عليهم ما يختص به كل فاضل تقدم في وجه من وجوه النظم، من الوجه الذي لا يشاركه فيه غيره، ولا يساهمه سواه.

ألا تراهم وصفوا زهيراً، بأنه "أمدحهم وأشدهم أثر شعر"، قاله أبو عبيدة، وروى أن الفرزدق انتحل بيتاً من شعر جرير وقال: هذا يشبه شعري، فكان هؤلاء لا يخفى عليهم ما قد نسبناه إليهم من المعرفة بهذا الشأن، وهذا كما يعلم البزازون هذا الديباج عمل بتستر، وهذا لم يعمل بتستر، وأن هذا من صنعة فلان دون فلان، ومن نسج فلان دون فلان، حتى لا يخفى عليه وإن كان قد يخفى على غيره.

ثم إنهم يعلمون أيضاً من له سمت بنفسه، ومذهب برأسه، ومن يقتدي في الألفاظ أو في المعاني أو فيهما بغيره، ويجعل سواه قدوة له، ومن يلم في الأحوال بمذهب غيره، ويأتي في الأحيان بمخترعه.

الشعراء يغيرون على بعضهم

وهذه أمور ممهدة عند العلماء، وأسباب معروفة عند الأدباء، وكما يقولون: إن البحتري يغير على أبي تمام إغارة، ويأخذ منه صريحاً وإشارة، ويستأنس بالأخذ منه، بخلاف ما يستأنس بالأخذ من غيره، ويألف اتباعه كما لا يألف اتباع سواه.

وكما كان أبو تمام يلم بأبي نواس ومسلم، وكما يعلم أن بعض الشعراء يأخذ من كل أحد ولا يتحاشى، ويؤلف ما يقوله من فرق شتى.

المتنبي يأخذ ويجحد

وما الذي نفع المتنبي جحوده الأخذ، وإنكاره معرفته الطائيين? وأهل الصنعة يدلون على كل حرف أخذه منهما جهاراً، أو ألمّ بهما فيه سراراً، وأما ما لم يأخذ عن الغير، ولكن سلك النمط، وراعى النهج، فهم يعرفونه، ويقولون: هذا أشبه به من التمرة بالتمرة، و أقرب إليه من الماء إلى الماء، و ليس بينهما إلا كما بين الليلة والليلة، فإذا تباينا، وذهب أحدهما في غير مذهب صاحبه، وسلك في غير جانبه، قيل: بينهما ما بين السماء والأرض، و ما بين النجم والنون، و ما بين المشرق والمغرب..

أهل الصنعة يعرفون دقيق هذا الشأن

وإنما أطلت عليك، ووضعت جميعه بين يديك، لنعلم أن أهل الصنعة يعرفون دقيق هذا الشأن وجليله، وغامضه وجليه، وقريبه وبعيده، ومعوجه ومستقيمه. فكيف يخفى عليهم الجنس الذي هو بين الناس متداول، وهو قريب متناول، من أمر يخرج عن أجناس كلامهم، ويبعد عما هو في عرفهم، ويفوت مواقع قدرهم... وإذا اشتبه ذلك، فإنما يشتبه على ناقص في الصنعة، أو قاصر عن معرفة طرق الكلام الذي يتصرفون فيه، ويديرونه بينهم، ولا يتجاوزونه، فلكلامهم سبل مضبوطة، وطرق معروفة محصورة، وهذا كما يشتبه على من يدعي الشعر من أهل زماننا، والعلم بهذا الشأن، فيدعي أنه أشعر من البحتري، ويتوهم أنه أدق مسلكاً من أبي نواس، وأحسن طريقاً من مسلم، وأنت تعلم أنهما متباعدان، وتتحقق أنهما لا يجتمعان، ولعل أحدهما إنما يلحظ عبارة صاحبه، ويطالع ضياء نجمه، ويراعي حفوف جناحه، وهو راكد في موضعه، ولا يضر بالبحتري ظنه، ولا يلحقه بشأوه وهمه.

إذا اشتبه على متأدب فصاحة القرآن فهو يبين عن جهله

فإن اشتبه على متأدب، أو متشاعر، أو ناشىء، أو مرمد، فصاحة القرآن وموقع بلاغته، وعجيب براعته، فما عليك منه، إنما يخبر عن نقصه، ويدل على عجزه، ويبين عن جهله، ويصرح بسخافة فهمه وركاكة عقله.

علو شأن القرآن لا يخفى على ذي بصيرة

وإنما قدمنا ما قدمناه في هذا الفصل، لتعرف أن ما ادعيناه من معرفة البليغ بعلو شأن القرآن، وعجيب نظمه وبديع تأليفه، أمر لا يجوز غيره، ولا يحتمل سواه، ولا يشتبه على ذي بصيرة، ولا يخيل عند أخي معرفة، كما يعرف الفصل بين طبائع الشعراء من أهل الجاهلية وبين المخضرمين وبين المحدثين، ويميز بين من يجري على شاكلة طبعه، وغريزة نفسه، وبين من يشتغل بالتكلف والتصنع، وبين من يصير التكلف له كالمطبوع، وبين من كان مطبوعه كالتعمل المصنوع.

هيهات هيهات، هذا أمر وإن دقّ فله قوم يقتلونه علماَ؛ وأهل يحيطون به فهماً، ويعرفونه إليك إن شئت، ويصورونه لديك إن أردت، ويجعلونه على خواطرك إن أحببت، ويعرضونه لفطنتك إن حاولت، وقد قال القائل

للحرب والضرب أقوامٌ لها خُلِقُوا

 

وللدواوين كـتّـابٌ وحُـسَّـابُ

لكل عمل رجال، ولكل صنعة ناس

ولكل عمل رجال، ولكل صنعة ناس، وفي كل فرقة الجاهل والعالم والمتوسط، ولكن قد قلَّ من يميز هذا الفن خاصة، وذهب من يحصل في هذا الشأن إلا قليلاً.

إن كنت في الصنعة مقصراً فلا بد لك من التقليد

فإن كنت ممن هو بالصفة التي وصفناها من التناهي في معرفة الفصاحات والتحقق بمجاري البلاغات، فإنما يكفيك التأمل، ويغنيك التصور، وإن كنت في الصنعة مرمداً وفي المعرفة بها متوسطاً، فلا بد لك من التقليد، ولا غنى بك عن التسليم: إن الناقص في هذه الصنعة كالخارج عنها، والشادي فيها كالبائن منها.

من أراد معرفة إعجاز القرآن فإننا سنضع بين يديه الأمثلة

فإن أراد أن يقرب عليه أمراً، ويفسح له طريقاً له ويفتح له باباً، ليعرف به إعجاز القرآن فإننا نضع بين يديه الأمثلة، ونعرض عليه الأساليب، ونصور له صورة كل قبيل من النظم والنثر.

سنحضر له من كل فن أمثلة كي يتأمل

ونحضر له من كل فن من القول شيئاً يتأمله حق تأمله، ويراعيه حق مراعاته، فيستدل استدلال العالم، ويستدرك استدراك الناقد، ويقطع له الفرق بين الكلام الصادر عن الربوبية، الطالع عن الإلهية، الجامع بين الحكم والحكم والأخبار عن الغيوب والغائبات، والمتضمن لمصالح الدنيا والدين والمستوعب لجلية اليقين، والمعاني المخترعة في تأسيس أصل الشريعة وفروعها، بالألفاظ الشريفة على تفننها وتصرفها...

سنعمد إلى الشعر البليغ فنبين وجه النقص فيه

ونعمد الى شيء من الشعر المجمع عليه فنبين وجه النقص فيه، وندل على انحطاط رتبته، ووقوع أبواب الخلل فيه، حتى إذا تأمل ذلك، وتأمل ما نذكره، من تفصيل إعجاز القرآن وفصاحته وعجيب براعته، انكشف له واتضح، وثبت ما وصفناه لديه، ووضح؛ وليعرف حدود البلاغة، ومواقع البيان والبراعة، ووجه التقدم في الفصاحة.

البلاغة تختلف عند الأمم

وذكر الجاحظ في كتاب البيان والتبيين أن الفارسي سئل، فقيل له: ما البلاغة? فقال: معرفة الفصل من الوصل، وسئل اليوناني عنها فقال: تصحيح الأقسام واختيار الكلام، وسئل الرومي عنها فقال: حسن الاقتضاب عند البداهة والغزارة يوم الإطالة، وسئل الهندي عنها فقال: وضوح الدلالة وانتهاز الفرصة وحسن الإشارة.

وقال مرة: التماس حسن الموقع و المعرفة بساحات القول، وقلة الخرق بما التبس من المعاني، أو غمض وشرد من اللفظ وتعذر، وزينته أن تكون الشمائل موزونة، وألفاظ معدلة واللهجة نقية، وأن لا يكلم سيد الأمة بكلام الأمة، ويكون في قواه فضل التصرف في كل طبقة، ولا يدقق المعاني كل التدقيق، ولا ينقح الألفاظ كل التنقيح، ويصفيها كل التصفية، ويهذبها بغاية التهذيب.

البراعة عند أهل اللغة

وأما البراعة ففيما يذكر أهل اللغة: الحذق بطريقة الكلام وتجويده، وقد يوصف بذلك كل متقدم في قول أو صناعة.

الفصاحة

وأما الفصاحة فقد اختلفوا فيها: منهم من عبر عن معناها: بأنه ما كان جزل اللفظ حسن المعنى، وقد قيل: معناها: الاقتدار على الإبانة عن المعاني الكامنة في النفوس، على عبارات جلية ومعان نقية بهية.

يجب النظر أولاً إلى القرآن وكلام النبي صلى الله عليه وسلم

والذي يصور عندك ما ضمنا تصويره، ويحصل عندك معرفته إذا كنت في صنعة الأدب متوسطاً. وفي علم العربية متبيناً، أن تنظر أولاً في نظم القرآن ثم في شيء من كلام النبي صلى الله عليه وسلم فتعرف الفصل بين النظمين، والفرق بين الكلامين، فإن تبين لك الفصل. ووقعت على جلية الأمر، وحقيقة الفرق، فقد أدركت الغرض، وصادفت المقصد، وإن لم تفهم الفرق ولم تقع على الفصل، فلابد لك من التقليد، وعلمت أنك من جملة العامة، وإن سبيلك سبيل من هو خارج عن أهل اللسان.

نماذج من خطب الرسول وكتبه

خطبة للنبي صلى الله عليه وسلم

روى طلحة بن عبيد الله قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب على منبره يقول "ألا أيها الناس: توبوا إلى ربكم قبل أن تموتوا، وبادروا الأعمال الصالحة قبل أن تشغلوا، وصِلُوا الذي بينكم وبين ربكم بكثرة ذكركم له، وكثرة الصدقة في السر والعلانية، تُرزقوا وتُؤجروا وتُنصروا.

واعلموا أن الله عز وجل قد افترض عليكم الجمعة، في مقامي هذا، في عامي هذا، في شهري هذا، إلى يوم القيامة، حياتي ومن بعد موتي.

فمن تركها وله إمام فلا جمع الله له شمله. ولا بارك له في أمره، ألا ولا حجَّ له، ألا ولا صوم له، ألا ولا صدقة له، ألا ولا برَّ له، ألا ولا يؤمُ أعرابي مهاجراً، ألا ولا يؤمُ فاجرٌ مؤمناً، إلا أن يقهره سلطان يخاف سيفه أو سوطه".

خطبة له صلى الله عليه وسلم

"أيها الناسُ: إن لكم معالم فانتهوا إلى معالمكم. وإن لكم نهايةَ فانتهوا إلى نهايتكم، إن المؤمن بين مخافتين: بين أجلٍ قد مضى لا يدري ما اللهُ صانعٌ فيه، وبين أجلٍ قد بقي لا يدري ما اللهُ تعالى قاضٍ عليه فيه... فليأخذِ العبدُ لنفسه من نفسه، ومن دنياه لآخرتهِ، ومن الشبيبةِ قبلَ الكِبَرَ ومن الحياة قبل الموت.

والذي نفسُ محمدٍ بيده ما بعد الموت من مستعتبٍ، ولا بعدَ الدنيا دارٌ إلا الجنةُ أو النار".

خطبة له صلى الله عليه وسلم

"إن الحمد لله أحمده وأستعينه، نعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهدِ اللهُ فلا مُضلَّ له ومن يُضللْ فلا هاديَ له.

 

وأشهد أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريكَ له، إن أحسنَ الحديث كتابُ الله، قد أفلح من زينه الله في قلبه، وأدخله في الإسلام بعد الكفر، واختاره على ما سواه من أحاديث الناس، إنه أصدق الحديث وأبلغه.

أحبوا من أحب الله، وأحبوا الله من كل قلوبكم، ولا تَمَلُّوا كلامَ الله وذكرَهُ، ولا تقسو عليه قلوبُكم.

اعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً، اتقوا الله حق تقاته، وصدقوا صالح ما تعملون بأفواهكم، وتحابوا بروح الله بينكم، والسلام عليكم ورحمة الله".

خطبة له صلى الله عليه وسلم في أيام التشريق

قال بعد حمد الله: "أيها الناسُ، هل تدرون في أي شهر أنتم، وفي أي يوم أنتم، وفي أي بلد أنتم? قالوا: في يوم حرام، وشهر حرام، وبلد حرام.

ألا لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض .

قال: ألا فإن دماءكم وأموالكم وأعراضَكم عليكم حرامٌ كحُرْمةِ يومِكم هذا في شهرِكم هذا في بلدكم هذا إلى يوم تلقونَهُ.

ثم قال: اسمعوا مني تعيشوا، ألا تظالموا ثلاثاً، ألا إنه لا يحلُّ مالُ امرئ مسلم إلا بطيبِ نفسٍ منه، ألا إن كل دمِ ومالِ ومأثرةِ كانت في الجاهلية تحت قدمي هذه، ألا وإن أولَ دمِ وُضع دمُ ربيعةَ بن الحارث بن عبد المطلب.

ألا وإن كل ربا كان في الجاهلية موضوعٌ، ألا وإن الله تعالى قضى أن أول ربا يُوضع ربا عمي العباس؛ لكم رؤوس أموالكم لا تَظْلِمُون ولا تُظْلَمُون.

ألا وإن الزمانَ قد استدار كهيئته يوم خلق السموات والأرض، " منها أربعةٌ حرم، ذلك الدينُ القيِّم، فلا تظلموا فيهن أنفسكم".

ألا وإن الشيطان قد يئس أن يعبده المصلون ولكن في التحريش بينكم.

اتقوا الله في النساء، فإنهن عندكم عوانِ لا يملكن لأنفسهن شيئاً، وإن لهن عليكم حقاً ولكم عليهن حقٌ، ألا يُوطِئنَ فرشَكم أحداً غيركم، فإن خفتم نشوزَّهن فعظوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن ضرباَ غير مبرح، ولهن رزقُهُن وكسوتُهُن بالمعروف، فإنما أخذتموهن بأمانة الله تعالى، واستحللتم فروجهن بكلمة الله.

ألا ومن كانت عنده أمانة فليؤدها إلى من ائتمنه عليها.

ثم بسط يده فقال: ألا هل بلغت? ليبلغِ الشاهدُ الغائبَ، فربَّ مبلغٍ أبلغُ من سامع".

خطبته صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة

"وقف على باب الكعبة ثم قال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له صدق الله وعدَهُ ونصرَ عبدَهُ وهزمَ الأحزابَ وحدَه.

ألا كل مأثرة أو دم أو مال يُدعى فهو تحت قدميَّ هاتين إلا سدانة البيتِ وسقاية الحاج.

إلا وقتل الخطأ العمد بالسوط والعصا فيه الدية مغلظة منها أربعون خلفة في بطونها أولادها، يا معشر قريشٍ إن الله قد أذهب عنكم نخوةَ الجاهلية وتعظمها بالآباء، الناس من آدم وآدم خلق من تراب، ثم تلا هذه الآية: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكّرٍ وَأُنْثَى... الآية".

يا معشر قريشِ أو يا أهل مكة: ما ترون أني فاعلٌ بكم? قالوا: خيراً، أخٌ كريمٌ وابنُ أخِ، قال: فاذهبوا فأنتم الطُلَقَاءُ.

خطبته صلى الله عليه وسلم بالخيف

روى زيد بن ثابت أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب بالخيف من منى فقال: "نَضَّرَ لله عبداً سمع مقالتي فوعاها، ثم أداها إلى من لم يسمعها، فرب حاملِ فقهٍ لا فقَه له، وربَّ حاملِ فقهٍ إلى من هو أفقه منه.

ثلاثٌ لا يغُلُّ عليهن قلب المؤمن: اخلاصُ العمل لله، والنصيحةُ لأولي الأمر، ولزوم الجماعة إن دعوتهم تكون من ورائه، ومن كان همُّهُ الآخرةَ جمع الله شمله وجعل غِناه في قلبه وأتته الدنيا وهي راغمةٌ، ومن كان همه الدنيا فرَّق الله أمره وجعل فقره بين عينيه ولم يأتِهِ من الدنيا إلا ما كُتِبَ له.".

خطبة له صلى الله عليه وسلم

رواها أبو سعيد الخدري رضي الله عنه: خطب بعد العصر فقال: " ألا إن الدنيا خَضِرَةٌ حُلوة، ألا وإن الله مستخلفُكم فيها فناظر كيف تعملون، فاتقوا الدنيا واتقوا النساء. ألا لا يمنعنَّ رجلاً مخافةُ الناس أن يقول الحق إذا علمه.

قال: ولم يزل يخطب حتى لم تبق من الشمس إلا حُمرةٌ على أطراف السَّعَف، فقال: إنه لم يبق من الدنيا فيما مضى إلا كما بقي من يومكم هذا فيما مضى".

كتاب صلى الله عليه وسلم إلى ملك فارس

"من محمد رسول الله إلى كسرى عظيم فارس: سلام على من اتبع الهدى وآمن بالله ورسوله، وشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمداً عبدُهُ ورسوله، وأدعوك بدعاء الله فإني أنا رسولُ الله إلى الناس كافةً لأُنذِرَ من كان حياً ويحق القول على الكافرين. فأسلم تَسْلَم".

كتاب له صلى الله عليه وسلم إلى النجاشي

"من محمد رسول الله إلى النجاشي ملك الحبشة: سلم أنت فإني أحمد إليك الله، الملكَ القدوسَ السلام المؤمن المهيمن، وأشهد أن عيسى بن مريم روحُ الله وكلمته ألقاها إلى مريم البتولِ الطيبة فحملت من روحه ونفخه كما خلق آدم من طين بيده ونفخه.

وإني أدعوك إلى الله وحده لا شريك له والموالاة على طاعته وأن تتبعني ونؤمن بالذي جاءني.

وإني أدعوك وجنودَك إلى الله تعالى فقد بلغتُ ونصحت فاقبلوا نُصحي. والسلام على من اتبع الهدى".

نسخة عهد الصلح مع قريش عام الحديبية

"هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم سهيل بن عمرو: اصطلحا على وضع الحرب عن الناس عشر سنين... يأمنُ فيهن الناس، ويكف بعضهم عن بعض، على أنه: من أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بغير إذن وليِّه ردَّه عليهم.

ومن جاء قريشاً ممن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لم يردوه عليه، وإن بيننا عيبةً مكفوفة، وأنه لا إسلال ولا إغلال.

وأنه من أحب أن يدخل في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وعقده دخل فيه.

ومن أحب أن يدخل في عهد قريش وعقدهم دخل فيه.

وأنك ترجعُ عنا عامَك هذا فلا تدخل علينا مكة فإذا كان عاماً قابلاً خرجنا عنك فدخلتها بأصحابك فأقمت بها ثلاثاً، وأن معك سلاح الراكب والسيوف في القُرُب، فلا تدخلها بغير هذا".

الفرق ظاهر بين بلاغة القرآن وبلاغة الرسول

ولا أطول عليك، وأقتصر على ما ألقيته إليك، فإن كان ذلك في الصنعة حظ، أو كان ذلك في هذا المعنى حس، أو كنت تضرب في الأدب بسهم، أو في العربية بقسط، وإن قلَّ ذلك السهم أو نقص ذلك النصيب، فما أحسب أنه يشتبه عليك الفرق بين براعة القرآن، وبين ما نسخناه لك من كلام الرسول صلى الله عليه وسلم في خطبته ورسائله، وما عساك تسمعه من كلامه، ويتساقط إليك من ألفاظه، وأقدر أنك ترى بين الكلامين بوناً بعيداً، وأمداً مديداً، وميداناً واسعاً، ومكاناً شاسعاً.

نظم القرآن من الأمر الإلهي وكلام النبي من الأمر النبوي

فإن قلت: لعله أن يكون تعمل للقرآن وتصنع لنظمه، وشبه عليك الشيطان ذلك من خبثه. فتثبت في نفسك وارجع إلى عقلك واجمع لُبَّك، وتيقن أن الخطب يحتشد لها في المواقف العظام والمحافل الكبار والمواسم الضخام، ولا يتجوز فيها، ولا يستهان بها، والرسائل إلى الملوك مما يجمع لها الكاتب جراميزه، ويشمر لها عن جد واجتهاد، فكيف يقع بها الإخلال? وكيف يتعرض للتفريط? فستعلم لا محالة أن نظم القرآن من الأمر الإلهي، وأن كلام النبي صلى الله عليه وسلم من الأمر النبوي.

نسخ خطب الرسول والبلغاء واحد وتميز النبي بالفصاحة البالغة

فإذا أردت زيادة في التبيين، وتقدماً في التعرف، وإشرافا على الجلية، وفوزاً بمحكم القضية، فتأمل - هداك الله - ما ننسخه لك من خطب الصحابة والبلغاء، لتعلم أن نسجها ونسج ما نقلنا من خطب النبي صلى الله عليه وسلم واحد، وسبكها سبك غير مختلف، وإنما يقع بين كلامه وكلام غيره ما يقع من التفاوت بين كلام الفصيحين، وبين شعر الشاعرين، وذلك أمر له مقدار معروف، وحد - ينتهي إليه - مضبوط.

عند التأمل يبدو التفاوت بين كلام الله وكلام البشر

فإذا عرفت أن جميع كلام الآدمي منهاج، ولجملته طريق، وتبينت ما يمكن فيه من التفاوت، نظرت إلى نظم القرآن نظرة أخرى، وتأملته مرة ثانية، فتراعي بعد موقعه، وعالي محله وموضعه، وحكمت بواجب من اليقين، وثلج الصدر بأصل الدين.

نماذج لبلاغة الصحابة والبلغاء

خطبة لأبي بكر الصديق رضي الله عنه

قام خطيباً فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: "أما بعد، فإني وليت أمركم، ولست بخيركم، ولكن نزل القرآن وسنّ النبي صلى الله عليه وسلم ، وعلمنا فعلمنا.

واعلموا أن أكيس الكَيْس التقى، وإن أحمق الحمق الفجور، وأن أقواكم عندي الضعيف حتى آخذ له بحقه، وأن أضعفكم عندي القوي حتى آخذ منه الحق.

أيها الناس، إنما أنا متبع ولست بمبتدع، فإن أحسنت فأعينوني، وإن زغت فقوموني".

عهد لأبي بكر الصديق إلى عمر رضي الله عنهما

بسم الله الرحمن الرحيم: هذا ما عهد أبو بكر خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم آخر عهده بالدنيا وأول عهد بالآخرة، ساعة يؤمن فيها الكافر ويتقي فيها الفاجر:

إني استخلفت عليكم عمر بن الخطاب، فإن برّ فذاك ظني به ورأيي فيه، وإن جار وبدل فلا علم لي بالغيب، والخير أردت لكم، ولكل امرئ ما اكتسب من الإثم، "وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُواْ أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ".

أبو بكر الصديق يتحدث إلى عبد الرحمن بن عوف

وفي حديث عبد الرحمن بن عوف رحمة الله عليه قال: دخلت على أبي بكر الصديق رضي الله عنه في علته التي مات فيها فقلت: أراك بارئاً يا خليفة رسول الله.

فقال: أما إني على ذلك لشديد الوجع، ولما لقيت منكم يا معشر المهاجرين أشد عليَّ من وجعي. إني وليت أموركم خيركم في نفسي فكلكم ورِم أنفه أن يكون له الأمر من دونه، والله لتتخذُن نضائد الديباج وستور الحرير، ولتألُمنَّ النوم على الصوف الأذربي كما يألم أحدكم النوم على حَسَك السعدان.

والذي نفسي بيده لأن يقدم أحدكم فتضرب رقبته في غير حد خير له من أن يخوض غمرات الدنيا: يا هادي الطريق جرت، إنما هو - والله - الفجر أو البحر.

قال: فقلت: خفِّض عليك يا خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن هذا يهيضك إلى ما بك، فو الله ما زلت صالحاً مصلحاً، لا تأسى على شيء فاتك من أمر الدنيا، ولقد تخليت بالأمر وحدك فما رأيت إلا خيراً.

وله خطب ومقامات مشهورة اقتصرنا منها على ما نقلنا، منها قصة السقيفة.

نسخة كتاب أبي عبيدة ومعاذ

إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه

كتب أبو عبيدة بن الجراح ومعاذ بن جبل إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنهم: سلام عليك فإنَّا نحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو. أما بعد، فإنا عهدناك وأمر نفسك لك مهم، فأصبحت وقد وليت أمر هذه الأمة أحمرها وأسودها، يجلس بين يديك الصديق والعدو، والشريف والوضيع، ولكل حصته من العدل، فانظر كيف أنت يا عمر عند ذلك، فإنا نحذرك يوماً تعنو فيه الوجوه، وتجِبُ فيه القلوب.

وإنا كنا نتحدث أن هذه الأمة ترجع في آخر زمانها أن يكون إخوان العلانية أعداء السريرة.

وأنا نعوذ بالله أن تَنْزِلَ كتابنا سوى المنزل الذي نزل من قلوبنا، فإنا إنما كتبنا إليك نصيحة لك. والسلام.

جواب عمر لأبي عبيدة ومعاذ

فكتب إليهما: من عمر بن الخطاب، إلى أبي عبيدة بن الجراح ومعاذ بن جبل: سلام عليكما، فإني أحمد إليكما الله الذي لا إله إلا هو: أما بعد فقد جاءني كتابكما تزعمان أنه بلغكما أني وليت أمر هذه الأمة أحمرها وأسودها يجلس بين يدي الصديق والعدو والشريف والوضيع، وكتبتما أن أنظر كيف أنت يا عمر عند ذلك? وإنه لا حول ولا قوة لعمر عند ذلك إلا بالله.

وكتبتما تحذراني ما حذرت به الأمم قبلنا.. وقديماً كان اختلاف الليل والنهار بآجال الناس يقربان كل بعيد، ويبليان كل جديد، ويأتيان بكل موعود، حتى يصير الناس إلى منازلهم من الجنة أو النار، ثم توفّى كل نفسٍ بما كسبت إن الله سريع الحساب.

وكتبتما تزعمان أن أمر هذه الآمرة يرجع في آخر زمانها أن يكون إخوان العلانية أعداء السريرة.. ولستم بذلك وليس هذا ذلك الزمان، ولكن زمان ذلك حين تظهر الرغبة والرهبة، فتكون رغبة بعض الناس إلى بعض إصلاح دينهم، ورهبة بعض الناس إصلاح دنياهم.

وكتبتما تعوذانني بالله أن أنزل كتابكما مني سوى المنزل الذي نزل من قلوبكما، وإنما كتبتما نصيحة لي.. وقد صدقتكما فتعهداني منكما بكتاب، ولا غنى بي عنكما.

عهد من عهود عمر رضي الله عنه

بسم الله الرحمن الرحيم: من عبد الله عمر بن الخطاب أمير المؤمنين إلى عبد الله بن قيس.

سلام عليك، أما بعد، فإن القضاء فريضة محكمة، وسنة متبعة ، فافهم إذا أُدلي إليك. فإنه لا ينفع تكلم بحق لا نفاذ له.

آس بين الناس في وجهك وعدلك ومجلسك، حتى لا يطمع شريف في حيفك، ولا ييأس ضعيف من عدلك.

البينة على من ادعى واليمين على من أنكر، والصلح جائز بين المسلمين، إلا صلحاً أحل حراماً أو حرم حلالاً.

 

ولا يمنعك قضاء قضيته بالأمس فراجعت فيه عقلك، وهُديت لرشدك، أن ترجع إلى الحق، فإن الحق قديم، ومراجعة الحق خير من التمادي في الباطل.

الفهمَ الفهمَ فيما تلجلج في صدرك، مما ليس في كتاب ولا سنة، ثم اعرف الأشباه والأمثال، وقِس الأمور عند ذلك، واعمد إلى أشبهها بالحق، واجعل لمن ادعى حقاً غائباً أو بينة أمداً ينتهي إليه فإن احضر بينته، أخذت له بحقه، وإلا استحللت عليه القضية، فإنه أنفى للشك، وأجلى للعمى.

المسلمون عدول بعضهم على بعض إلا مجلوداً في حد، أو مجرباً عليه شهادة الزور، أو ظَنيناً في ولاء أو نسب، فإن الله تولى منكم السرائر، ودرأ بالأيمان والبينات.

وإياك والغَلَق والضجر والتأذي بالخصوم، والتنكر عند الخصومات، فإن الحق في مواطن الحق يعظِّم الله به الأجر، ويحسن به الذخر، فمن صحت نيته، وأقبل على نفسه، كفاه الله ما بينه وبين الناس، ومن تخلَّق للناس بما يعلم الله أنه ليس من نفسه شانه الله، فما ظنك بثواب الله عز وجل في عاجل رزقه وخزائن رحمته، والسلام.

ولعمر رضي الله عنه خطب مشهورة مذكورة في التاريخ لم ننقلها اختصاراً.

ومن كلام عثمان بن عفان رضي الله عنه

خطبة له رضي الله عنه

قال: إن لكل شيء آفةً، وإن لكل نعمة عاهة، في هذا الدين عيّابون ظنانون، يظهرون لكم ما تحبون، ويسرون ما تكرهون، يقولون لكم وتقولون، طَغَام مثل النعام، يتبعون أول ناعق: أحب مواردهم إليهم النازح.

لقد أقررتم لابن الخطاب بأكثر مما نقمتم علي، ولكنه وقمكم وقمعكم، وزجركم زجر النعام المخزَّمة. والله إني لأقرب ناصراً، وأعز نفراً، وأقمن إن قلت هلم أن جاب دعوتي من عمر.

هل تفقدون من حقوقكم شيئاً فمالي لا أفعل في الحق ما أشاء؛ إذاً فلمَ كنت إماماً?

كتابة إلى علي حين حصر رضي الله عنهما

أما بعد، فقد بلغ السيل الزبى، وجاوز الحزام الطبيين، وطمع فيَّ من لا يدفع عن نفسه. فإذا أتاك كتابي هذا فأقبل إلي، عليّ كنت أم لي.

فإني كنت مأكولاً فكن خيرَ آكلٍ

 

وإلا فأدركني ولـمّـا أُمـزَّقِ

ومن كلام علي رضي الله عنه

قال لما قبض أبو بكر رضي الله عنه ارتجت المدينة بالبكاء كيوم قبض النبي صلى الله عليه وسلم، وجاء عليّ باكياً مسترجعاً وهو يقول: اليوم انقطعت خلافة النبوة.. حتى وقف على باب البيت الذي فيه أبو بكر فقال: رحمك الله أبا بكر، كنت إلف رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنسه وثقته وموضع سره.

كنت أول القوم إسلاماً، وأخلصهم إيماناً، وأشدهم يقيناً، وأخوفهم لله، وأعظمهم غناء في دين الله، وأحوطهم على رسوله، وأيمنهم على الإسلام، وآمِنهم على أصحابه، أحسنهم صحبة، وأكثرهم مناقب، وأفضلهم سوابق، وأرفعهم درجة، وأقربهم وسيلة، وأقربهم برسول الله صلى الله عليه وسلم سنناً وهدياً ورحمة وفضلاً، وأشرفهم منزلة، وأكرمهم عليه، وأوثقهم عنده، جزاك الله عن الإسلام وعن رسوله خيراً.

كنت عنده بمنزلة السمع والبصر، صدقت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين كذّبه الناس، فسماك الله في تنزيله الصديق، فقال: والذي جاء بالصدق وصدق به.

وآسيته حين بخلوا، وقمت معه عند المكاره حين عنه قعدوا؛ وصحبته في الشدائد أكرم الصحبة ثاني اثنين، وصاحبه في الغار، والمنزل عليه السكينة والوقار، ورفيقه في الهجرة، وخليفته في دين الله وفي أمته الخلافة حين ارتد الناس، فنهضت حين وهن أصحابك، وبرزت حين استكانوا وقويت حين ضعفوا، وقمت بالأمر حين فشلوا، ونطقت حين تبعبعوا، مضيت بنور إذ وقفوا، واتبعوك فهدوا.

وكنت أصوبهم منطقاً، وأطوالهم صمتاً، وأبلغهم قولاً، وأكثرهم رأياً، وأشجعهم نفساً، وأعرفهم بالأمور، وأشرفهم عملاً.

كنت للدين يَعْسُوباً، أولاً حين نفر عنه الناس، وآخراً حين أقبلوا، وكنت للمؤمنين أباً رحيماً إذ صاروا عليك عيالاً فحملت أثقال ما ضعفوا، ورعيت ما أهملوا، وحفظت ما أضاعوا، شمّرت إذ خنعوا، وعلوت إذ هلعوا، وصبرت إذ جزعوا، وأدركت أوتار ما طلبوا، ورجعوا رشدهم برأيك فظفروا ونالوا بك ما لم يحتسبوا.

 

وكنت كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم آمن الناس عليه في صحبتك وذات يدك.

وكنت كما قال ضعيفاً في بدنك، قوياً في أمر الله، متواضعاً في نفسك، عظيماً عند الله، جليلاً في أعين الناس، كبيراً في أنفسهم، لم يكن لأحد فيك مغمز، ولا لأحد مطمع ولا لمخلوق عندك هوادة، الضعيف الذليل عندك قوي عزيز حتى تأخذ له بحقه، والقوي العزيز عندك ضعيف ذليل حتى تأخذ منه الحق، القريب والبعيد عندك سواء، أقرب الناس إليك أطوعهم لله.

شأنك الحق والصدق والرفق. قولك حكم، وأمرك حزم ورأيك علم وعزم، فأبلغت وقد نهج السبيل، وسهل العسير، وأطفأت النيران، واعتدل بك الدين، وقوي الإيمان، وظهر أمر الله ولو كره الكافرون.

وأتعبت من بعدك اتعاباً شديداً، وفزت بالجد فوزاً مبيناً. فجللت عن البكاء، وعظمت رزيتك في السماء، وهدت مصيبتك الأنام فإنّا لله وإنا إليه راجعون، رضينا عن الله قضاءه، وسلمنا له أمره.

فوالله لن يصاب المسلمون بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم بمثلك أبداً، فألحقك الله بينه، ولا حرمنا أجرك، ولا أضلنا بعدك.

وسكت الناس حتى انقضى كلامه. ثم بكوا، حتى علت أصواتهم.

خطبة أخرى لعلي رضي الله عنه

أما بعد، فإن الدنيا قد أدبرت وآذنت بوداع، وإن الآخرة قد أقبلت وأشرفت باطلاع.. المضمار اليوم وغداً السباق.

ألا وإنكم في أيام مهل ومن ورائه أجل، فمن أخلص في أيام أمله فقد فاز، ومن قصر في أيام أمله قبل حضور أجله فقد خسر عمله وضرّه أملُه.

ألا فاعملوا لله في الرغبة كما تعملون له في الرهبة.

ألا وإني لم أرَ كالجنة نام طالبها، ولا كالنار نام هاربها.

ألا وإنه من لم ينفعه الحق يضر به الباطل ومن لم يستقم به الهدى يجر به الضلال.

ألا وإنكم قد أُمرتم بالظعن، ودُللتم على الزاد، ألا وأن أخوف من أخاف عليكم الهوى وطول الأمل.

خطبة أخرى لعلي رضي الله عنه

وخطب فقال بعد حمد الله: أيها الناس اتقوا الله فما خُلِقَ امرؤ عبثاً فيلهو، ولا أهمل سُدى فيغلو، ما دنياه التي تحسنت إليه بخلف من الآخرة التي قبحها سوء النظر إليه، وما الخسيس الذي ظفر به من الدنيا بأعلى همته كالآخر الذي ظفر به من الآخرة من سهمته.

كتاب علي إلى عبد الله بن عباس رضي الله عنهما

وكتب علي رضي الله عنه إلى عبد الله بن عباس رحمه الله وهو بالبصرة: أما بعد، فإن المرء يسر بدرك ما يكن ليحرمه، ويسوءه فوت ما لم يكن ليدركه، فليكن سرورك بما قدمت من أجر أو منطق، وليكن أسفك فيما فرطت فيه من ذلك، وانظر ما فاتك من الدنيا فلا تكثر عليه جزعاً، وما نلته فلا تنعم به فرحاً، وليكن همك لما بعد الموت.

كلام لابن عباس رضي الله عنه

قال عتبة بن أبي سفيان لابن عباس: ما منع أمير المؤمنين أن يبعثك مكان أبي موسى يوم الحكمين? قال: منعه -والله- من ذلك حاجز القدر، وقصر المدة، ومحنة الابتلاء.

أما والله لو بعثني مكانه لاعترضت له في مدارج نفسه ناقضاً لما أبرم، ومُبرماً لما نقض، أسفّ إذا طار وأطير إذ أسفَ. ولكن مضى قدر وبقي أسف، ومع يومنا غد، والآخرة خير لأمير المؤمنين من الأولى.

خطبة لعبد الله بن مسعود رضي الله عنه

أصدق الحديث كتاب الله وأوثق العرى كلمة التقوى.

خير الملل ملة إبراهيم، وأحسن السنن سنة النبي صلى الله عليه وسلم.

خير الأمور أوساطها، وشر الأمور محدثاتها. ما قلّ وكفى خير مما كثر وألهى.

خير الغنى غنى النفس، وخير ما ألقي في القلب اليقين.

الخمر جماع الإثم، النساء جبالة الشيطان، الشباب شعبة من الجنون، حب الكفاية مفتاح المعجزة.

من الناس من لا يأتي الجماعة إلا دبراً، ولا يذكر الله إلا هجراً.

أعظم الخطايا اللسان الكذوب.

سباب المؤمن فسق وقتاله كفر وأكل لحمه معصية.

من يتألَّ على الله يكذبه.

من يَغفر يُغفر له، مكتبوب في ديوان المحسنين: من عفا عفي عنه.

الشقي من شقي في بطن أمه، والسعيد من أوعظ بغيره.

الأمور بعواقبها.

ملاك العمل خواتيمه.

أشرف الموت الشهادة.

من يعرف البلاء يصبر عليه، ومن لا يعرف البلاء ينكره.

خطبة لمعاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه

قال الراوي: لما حضرته الوفاة قال لمولى له: من بالباب? فقال: نفر من قريش يتباشرون بموتك! فقال: ويحك ولمَ? ثم أذن للناس، فحمد الله فأوجز، ثم قال:

أيها الناس، إنّا قد أصبحنا في دهر عنُود، وزمن شديد، يعد فيه المحسن مسيئاً، ويزداد الظالم فيه عُتُوّاً، لا ننتفع بما علمنا، ولا نسأل عما جهلنا، ولا نتخوف من قارعة حتى تحل بنا، فالناس على أربعة أصناف: منهم من لا يمنعه الفساد في الأرض إلا مهانة نفسه وكلال حده ونضيض وفره.

ومنهم المسلط سيفه، والمجلب برجله والمعلن بشره، قد أشرط نفسه، وأوبق دينه لحطان ينتهزه، أو مقنب يقوده أو منبر يقرعه، وبئس المتجر أن تراها لنفسك ثمناً، وممالك عند الله عوضاً..

ومنهم من يطلب الدنيا بعمل الآخرة ولا يطلب الآخرة بعمل الدنيا، قد طامن من شخصه، وقارب من خطوه، وشمر من ثوبه وزخرف نفسه للأمانة، واتخذ ستر الله ذريعة إلى المعصية.

ومنهم من أقعده عن الملك ضؤوله في نفسه، وانقطاع سببه، فقصرت به الحال فتخلى باسم القناعة، وتزين بلباس الزهاد، وليس في ذلك في مراح ولا مغدى.

وبقي رجال أغضُّ أبصارهم ذكر المرجع، وأراق دموعهم خوف المحشر، فهم بين شديد ناد وخائف متقمع وساكت مكعوم، وداع مخلص، وموجع ثكلان، قد أخملتهم التقية، وشملتهم الذلة، فهم في بحر أجاج، أفواههم دامية وقلوبهم قريحة، قد وعظوا حتى ملوا، وقهروا حتى ذلوا، وقتلوا حتى قلوا.

فلتكن الدنيا في عيونكم أقل من حتاتة القرظ وقراضة الجلم واتعظوا بم كان قبلكم قبل أن يتعظ بكم بعدكم، فارفضوها ذميمة ، فإنها قد رفضت من كان أشغف بها منكم.

خطبة لعمر بن عبد العزيز رضي الله عنه

أيها الناس: إنكم ميتون ثم إنكم مبعوثون، ثم إنكم محاسبون، فلعمري لئن كنتم صادقين، لقد قصرتم، ولئن كنتم كاذبين لقد هلكتم.

يا أيها الناس إنه من يقدر له رزق برأس جبل أو بحضيض أرض يأته، فأجملوا في الطب.

خطبة للحجاج بن يوسف

حمد الله وأثنى عليه ثم قال: يا أهل العراق، ويا أهل الشقاق والنفاق، ومساوئ الأخلاق، وبني اللكيعة، وعبيد العصا وأولاد الإماء، والفقع بالقرقر، إني سمعت تكبيراً لا يراد به الله وإنما يراد به الشيطان، وإنما مثلي ومثلكم ما قاله ابن براقة الهمداني:

وكنت إذا قوم غزوني غزوتهـم

 

فهل أنا في ذا يا لهمدانَ ظالمُ?

متى تجمع القلب الذكي وصارماً

 

وأنفاً حمياً تجتنبك المـظـالـم

أما والله لا تقرع عصا عـصـا

 

إلا جعلتها كـأمـس الـدابـر

خطبة لقس بن ساعدة الأيادي

أخبرني محمد بن علي الأنصاري بن محمد بن عامر، قال: حدثنا علي بن إبراهيم، حدثنا عبد الله بن داود بن عبد الرحمن العمري، قال: حديثنا الأنصاري علي بن محمد الحنظلي من ولد حنظلة الغسيل، حدثنا جعفر بن محمد، عن محمد بن حسان، عن محمد بن حجاج اللخمي، عن مجالد، عن الشعبي، عن ابن عباس، قال: لما وَفَد وفدُ عبد القس على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أيكم يعرف قس بن ساعدة قالوا: كلنا نعرفه يا رسول الله، قال: لست أنساه بعكاظ إذ وقف على بعير له أحمر فقال: أيها الناس اجتمعوا وإذا اجتمعتم فاسمعوا وإذا سمعتم فعوا وإذا وعيتم فقولوا وإذا قلتم فاصدقوا. من عاش مات ومن مات فات، وكل ما هو آتٍ آت.

أما بعد، فإن في السماء لخبراً، وإن في الأرض لعبراً. مهاد موضوع، وسقف مرفوع، ونجوم تمور، وبحار لا تغور.

أقسم بالله قس قسماً حقاً لا كاذباً فيه ولا آثماً لئن كان في الأرض رضا ليكونن سخط، إن لله تعالى ديناً هو أحب إليه من دينكم الذي أنتم عليه، وقد أتاكم أوانه ولحقتكم مدته، ما لي أرى الناس يذهبون فلا يرجعون، أرضوا بالمقام فأقاموا، أما تركوا فناموا.

ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أيكم يروى شعره? فأنشدوه:

في الذاهـبـين الأولـي

 

ن من القرون لنا بصائر

لمـا رأيت مـــوارداً

 

للموت ليس لها مصادر

ورأيت قومي نحـوهـا

 

يسعى الأصاغر والأكابر

لا يرجع المـاضـي إل

 

ي ولا من الباقين غابـر

أيقنت أني لا محا-لة حيث صار القومُ صائر

خطبة أخرى لقس بن ساعدة

أخبرني الحسن بن عبد الله بن سعيد، حدثنا علي بن الحسين بن إسماعيل، حدثنا محمد بن زكريا، حدثنا عبد الله بن الضحاك، عن هشام، عن أبيه أن وفداً من إياد قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسألهم عن حال قس بن ساعدة، فقالوا: قال قس:

يا ناعي الموت والأموات في جدث

 

عليهم من بقايا بَـزِّهـم خـرق

دعهم فإن لهم يوماً يُصاح بـهـم

 

كما ينبه من نوماته الـصـعـق

منهم عراة ومنهم فـي ثـيابـهـمُ

 

منها الجديد ومنها الأورق الخلـق

مطر ونبات، وآباء وأمهات، وذاهب وآت، وآيات في إثر آيات، وأموات بعد أموات، ضوء وظلام، وليال وأيام، وغني وفقير، وشقي وسعيد، ومحسن ومسيء.

أين الأرباب الفعلة? ليصلحن كل عامل عمله. كلا بل هو الله واحد، ليس بمولود ولا والد، أعاد وأبدى، وإليه المآب غدا.

أما بعد يا معشر إياد، أين ثمود وعاد، وأين الآباء والأجداد، أين الحسن الذي لم يشكر? أين الظالم الذي لم ينقم? كلا ورب الكعبة ليعودَنَّ ما بدا، ولئن ذهب يوم ليعودَنَّ يوم.

قال: وهو قس بن ساعدة بن حداق بن ذهل بن إياد بن نزار، أول من آمن بالبعث من أهل الجاهلية، وأول من توكأ على عصا، وأول من تكلم بأما بعد.

خطبة لأبي طالب

الحمد لله الذي جعلنا من ذرية إبراهيم وزرع إسماعيل، وجعل لنا بلداً حراماً وبيتاً محجوباً، وجعلنا الحكام على الناس. وأن محمد بن عبد الله ابن أخي لا يوازن فتى من قريش إلا رجح به بركة وفضلاً وعدلاً ومجداً ونبلاً. وإن كان في المال مُقِلاً، فإن المال عارية مسترجعة، وظل زائل، وله في خديجة بنت خويلد رغبة، ولها فيه مثل ذلك، وما أردتم من الصداق فعلي.

الفرق ظاهر بن كلام البشر وكلام الله

قد نسخت لك جملاً من كلام الصدر الأول ومحاوراتهم وخطبهم، وأحيلك فيما لم أنسخ على التواريخ والكتب المصنفة في هذا الشأن، فتأمل ذلك، وسائر ما هو مسطر من الأخبار المأثورة عن السلف وأهل البيان واللسن، والفصاحة والفطن، والألفاظ المنثورة، والمخاطبات الدائرة بينهم، والأمثال المنقولة عنهم.

انظر بعقل وفطنة يتبين لك الفضل بين كلام الله والناس

ثم انظر بسكون طائر وخفض جناح وتفريغ لب وجمع عقل في ذلك، فسيقع لك الفضل بين كلام الناس وبين كلام رب العالمين، وتعلم أن نظم القرآن نظم كلام الآدميين، وتعلم الحد الذي يتفاوت بين كلام البليغ والبليغ، والخطيب والخطيب، والشاعر والشاعر، وبين نظم القرآن جملة.

إن خيل إليك أن الشعر أفصح فقد سول لك الشيطان

فإن خيل إليك أو شبه عليك، وظننت أنه يحتاج أن يوازن بين نظم الشعر والقرآن، لأن الشعر أفصح من الخطب وأبرع من الرسائل وأدق مسلكاً من جميع المحاورات، ولذلك قالوا له صلى الله عليه وسلم: هو شاعر أو ساحر. وسول إليك الشيطان أن الشعر أبلغ وأعجب وأرق وأبرع، وأحسن الكلام وأبدع، فهذا فصل بين نظر بين المتكلمين وكلام بين المحققين.

أفضل أهل العلم والأدب يقولون الشعر يلي النثر في المرتبة

أسمعت أفضل من رأيت من أهل العلم بالأدب والحذق بهذه الصناعة مع تقدمه في الكلام يقول: إن الكلام المنثور يتأتى فيه من الفصاحة والبلاغة ما لا يتأتى في الشعر، لأن الشعر يضيق نطاق الكلام، ويمنع القول من انتهائه، ويصده عن تصرفه على سننه... وحضره من يتقدم في صنعة الكلام فراجعه في ذلك، وذكر أنه لا يمتنع أن يكون الشعر أبلغ إذا صادف شروط الفصاحة، وأبدع إذا تضمن أسباب البلاغة.

قل البارعون في النثر

ويشهد عندي للقول الأخير: أن معظم براعة كلام العرب في الشعر، ولا نجد في منثور قولهم ما نجد في منظومه. وإن كان قد أحدثت البراعة في الرسائل على حد لم يعهد في سالف أيام العرب، ولم ينقل من دواوينهم وأخبارهم، وهو وإن ضيق نطاق القول فهو يجمع حواشيه، ويضم أطرافه ونواحيه، فهو إذا تهذب في بابه، ووفى له جميع أسبابه، لم يقاربه من كلام الآدميين كلام، ولم يعارضه من خطابهم خطاب.

يقال إن المتنبي كان يرى الفصاحة في الشعر

وقد حكي عن المتنبي أنه كان ينظر في المصحف، فدخل إليه بعض أصحابه، فأنكر نظره فيه لما كان رآه عليه من سوء اعتقاده، فقال له: هذا المكي على فصاحته كان مفحماً.

فإن صحت هذه الحكاية عنه في إلحاده، عرف بها أنه كان يعتقد أن الفصاحة في قول الشعر أبلغ.

فصاحة القرآن تزيد على كل نظم

وإذا كانت الفصاحة في قول الشعر، أو لم تكن، وبينا أن نظم القرآن يزيد في فصاحته على كل نظم، ويتقدم في بلاغته على كل قول، بما يتضح به الأمر اتضاح الشمس، ويتبين به بيان الصبح. وقفت على جلية هذا الشأن.

فانظر فيما نعرضه عليك ما تعرضه، وتصور بفهمك ما نصوره، ليقع لك موقع عظيم شأن القرآن، وتأمل ما نرتبه ينكشف لك الحق.

لبيان أن القرآن أفصح سنظهر لك عيوب أبلغ الشعر

إذا أردنا تحقيق ما ضمناه لك، فمن سبيلنا أن نعمد إلى قصيدة، متفق على كبر محلها، وصحة نظمها، وجودة بلاغتها ومعانيها، وإجماعهم على إبداع صاحبها فيها، مع كونه من الموصوفين بالتقدم في الصناعة، والمعروفين بالحذق في البراعة، فنقفك على مواضع خللها، وعلى تفاوت نظمها، وعلى اختلاف فصولها، وعلى كثرة فضولها، وعلى شدة تعسفها، وبعض تكلفها، وما تجمع من كلام رفيع، يقرن بينه وبين كلام وضيع، وبين لفظ سوقي يقرن بلفظ ملوكي، وغير ذلك من الوجوه التي يجيء تفصيلها، ونبين ترتيبها وتنزيلها.

لا نشتغل بكلام مسيلمة لأنه أسخف ما أن نفكر به

فأما كلام مسيلمة الكذاب، وما زعم أنه قرآن، فهو أخس من أن نشتغل به، وأسخف من أن نفكر فيه.. وإنما نقلنا منه طرفاً ليتعجب القارئ، وليتبصر الناظر، فإنه على سخافته قد أضل، وعلى ركاكته قد أزل، وميدان الجهل واسع، ومن نظر فيما نقلناه عنه، وفهم موضع جهله، كان جديراً أن يحمد الله على ما رزقه من فهم، وآتاه من علم.

من كلام مسيلمة الكذاب

فمما كان يزعم أنه نزل عليه من السماء: "والليل الأطخم، والذئب الأدلم، والجذع الأزلم، ما انتهكت "أسيد" من محرم".

وذلك قد ذكر في خلاف وقع بين قوم أتوه من أصحابه.

وقال أيضاً: "والليل الدامس، والذئب الهامس: ما قطعت "أسيد" من رطب ولا يابس".

وكان يقول: "والشاة ألوانها، وأعجبها السود وألبانها، والشاة السوداء واللبن الأبيض: إنه لعجب محض، وقد حرم المذق، فما لكم لا تجتمعون".

وكان يقول: "ضفدع بنت ضفدعين، نقي ما تنقين، أعلاك في الماء، وأسفلك في الطين، لا الشارب تمنعين، ولا الماء تكدرين: لنا نصف الأرض ولقريش نصفها، ولكن قريشاً قوم يعتدون".

وكان يقول: والمبديات زرعاً، والحاصدات حصداً، والذاريات قمحاً، والطاحنات طحناً، والخابزات خبزاً، والثاردات ثرداً، واللاقمات لقماً، إهالة وسمناً، لقد فضلتم على أهل الوبر، وما سبقكم أهل المدر، ريفكم فامنعوه والمعتر فآووه، والباغي فناوئوه".

اجتماع سجاح المتنبئة بمسيلمة الكذاب

وقالت سجاح بنت الحارث بن عقبان وكانت تتنبأ فاجتمع مسيلمة معها فقالت له: ما أوحي إليك?.

فقال: "ألم تر كيف فعل ربك بالحبلى، أخرج منها نسمة تسعى، من بين صفاق وحشا".

وقالت: "فما بعد ذلك? قال: أوحي إلي: "إن الله خلق النساء أفواجاً، وجعل الرجال لهن أزواجاً، فنولج فيهن قعساً إيلاجاً، ثم نخرجها إذا شئنا إخراجاً، فينتجن لنا سخالاً نتاجاً"، فقالت: أشهد أنك نبي.

العقل السليم لا يقبل كلام مسيلمة

ولم ننقل كل ما ذكر من سخفه كراهية التثقيل.. وروي أنه سأل أبو بكر الصديق رضي الله عنه أقواماً قدموا عليه من بني حنيفة، عن هذه الألفاظ، فحكوا بعض ما نقلناه، فقال أبو بكر: سبحان الله، ويحكم إن هذا الكلام لم يخرج عن آل" أي عن ربوبية... ومن كان له عقل لم يشتبه عليه سخف هذا الكلام.

فنرجع الآن إلى ما ضمناه، من الكلام على الأشعار المتفق على جودتها، وتقدم أصحابها في صناعتهم، ليتبين لك تفاوت أنواع الخطاب، وتباعد مواقع البلاغة، وتستدل على مواضع البراعة.

امرؤ القيس ومعلقته

وأنت لا تشك في جودة شعر امرئ القيس، ولا ترتاب في براعته، ولا تتوقف في فصاحته، وتعلم أنه قد أبدع في طريق الشعر أموراً اتبع فيها: من ذكر الديار، والوقوف عليها، إلى ما يتصل بذلك من البديع الذي أبدعه، والتشبيه الذي أحدثه، والتمليح الذي يوجد في شعره، والتصرف الكثير الذي تصادفه في قوله، والوجوه التي ينقسم إليها كلامه، من صناعة وطبع، وسلاسة وعلو، ومتانة ورقة، وأسباب تحمد، وأمور تؤثر وتمدح.

شعر امرئ القيس ميزان الشعراء

وقد ترى الأدباء أولاً يوازنون بشعره فلاناً وفلاناً، ويضمون أشعارهم إلى شعره، حتى ربما وازنوا بين شعر من لقيناه وبين شعره، في أشياء لطيفة، وأمور بديعة.. وربما فضلوهم عليه، أو سووا بينهم وبينه أو قربوا موضع تقدمهم عليه، وبرزوه بين أيديهم.

الشعراء يتشوقون لمعارضته

لوما اختاروا قصيدته في السبعيات، أضافوا إليها أمثالها، وقرنوا بها نظائرها، ثم تراهم يقولون: لفلان لامية مثلها، ثم ترى أنفس الشعراء تتشوق إلى معارضته، وتساويه في طريقته، وربما غبرت في وجهه في أشياء كثيرة، وتقدمت عليه في أسباب عجيبة.

وإذا جاءوا إلى تعداد محاسن شعره، كان أمراً محصوراً، وشيئاً معروفاً، أنت تجد من ذلك البديع أو أحسن منه في شعر غيره. وتشاهد مثل ذلك البارع في كلام سواه، وتنظر إلى المحدثين كيف توغلوا إلى حيازة المحاسن، منهم من جمع رصانة الكلام إلى سلاسته، ومتانته إلى عذوبته، والإصابة في معناه إلى تحسين بهجته، حتى إن منهم من إن قصر عنه في بعض تقدم عليه في بعض، لأن الجنس الذي يرمون إليه، والغرض الذي يتواردون عليه، مما للآدمي فيه مجال، وللبشري فيه مثال، فكل يضرب فيه بسهم، ويفوز فيه بفدح.

ثم قد تتفاوت السهام تفاوتاً وتتباين تبايناً، وقد تتقارب تقارباً، على حسب مشاركتهم في الصنائع، ومساهمتهم في الحرف.

ونظم القرآن جنس مميز، وأسلوب متخصص، وقبيل عن النظير متخلص.

عورات امرئ القيس في أروع شعره

فإذا شئت أن تعرف عظم شأنه، فتأمل ما نقوله في هذا الفصل لامرئ القيس، في أجود أشعاره، وما نبين لك من عواره على التفصيل وذلك قوله:

قفا نَبكِ من ذكرى حبيبٍ ومنزل

 

بسِقطِ اللوى بن الدَّخول فحومَلِ

فَتُوضِحَ فالمِقْراة لم يعفُ رسمُها

 

لما نسجَتها من جَنوب وشَمـأَل

الذين يتعصبون له، أو يدعون محاسن الشعر، يقولون: هذا من البديع؛ لأنه وقف واستوقف، وبكى واستبكى، وذكر العهد والمنزل والحبيب، وتوجع واسترجع، كله في بيت، ونحو ذلك.. وإنما بينا هذا، لئلا يقع لك ذهابنا عن مواضع المحاسن إن كانت، ولا غفلتنا عن مواضع الصناعة إن وجدت.

تأمل أرشدك الله، وانظر هداك الله: أنت تعلم أنه ليس في البيتين شيء قد سبق في ميدانه شاعراً، ولا تقدم به صانعاً.. وفي لفظه ومعناه خلل.

أول المآخذ في قوله قفا نبك من ذكرى حبيب

فأول ذلك: أنه استوقف من يبكي لذكرى الحبيب، وذكراه لا تقتضي بكاء الخلي، وإنما يصح طلب الإسعاد في مثل هذا، على أن يبكي لبكائه، ويرق لصديقه في شدة برحائه، فإما أن يبكي على حبيب صديقه، وعشيق رفيقه، فأمر محال.

فإن كان المطلوب وقوفه وبكاءه أيضاً عاشقاً، صح الكلام وفد المعنى من وجه آخر، لأنه من السخف أن لا يغار على حبيبه، وأن يدعو غيره إلى التغازل عليه، والتواجد معه فيه.

تعداد الأماكن الكثيرة ليس ضرورياً

ثم في البيتين ما لا يفيد من ذكر هذه المواضع، وتسمية هذه الأماكن، من: "الدخول" "وحومل"، "وتوضح"، "والمقراة"، "وسقط اللوى"، وقد كان يكفيه أن يذكر في التعريف بعض هذا، وهذا التطويل إذا لم يفد كان ضرباً من العي.

عفاء الرسم أدل على الوفاء للعهد

ثم إن قوله: "لم يعف رسمها"، ذكر الأصمعي من محاسنه أنه باق، فنحن نحزن على مشاهدته، فلو عفا لاسترحنا، وهذا بأن يكون قد مساويه أولى: لأنه إن كان صادق الودّ فلا يزيد عفاء الرسوم إلا جدة عهد، وشدة وجد، وإنما قرع له الأصمعي إلى إفادته هذه الفائدة خشية أن يعاب عليه، فيقال: أي فائدة لأن يعرفنا أنه لم يعف رسم منازل حبيبه? وأي معنى لهذا الحشو? فذكر ما يمكن أن يذكر، ولكن لم يخلصه بانتصاره له من الخلل.

امرؤ القيس يكذب نفسه

ثم في هذه الكلمة خلل آخر، لأنه عقب البيت بأن قال: "فهل عند رسم دارس من معول?"، فذكر أبو عبيدة أنه رجع فأكذب نفسه، كما قال زهير:

قف بالديار التي لم يعفُها القدمُ

 

نعم وغيرها الأرواحُ والديمُ

في البيت تناقض

وقال غيره: "أراد بالبيت الأول أنه لم ينطمس أثره كله، وبالثاني أنه ذهب بعضه، حتى لا يتناقض الكلامان: وليس في هذا انتصار، لأن معنى "عفا ودرس"، فإذا قال لم يعف رسمها ثم قال: قد عفا فهو تناقض لا محالة، واعتذار أبي عبيدة أقرب لو صح، ولكن لم يرد هذا القول مورد الاستدراك كما قاله زهير، فهو إلى الخلل أقرب.

تعسف لما قال لما نسجتها

وقوله: "لما نسجتها"، كان ينبغي أن يقول" لما نسجها ولكنه تعسف فجعل ما في تأويل التأنيث لأنها في معنى الريح، والأولى التذكير دون التأنيث، وضرورة الشعر قد دلته على هذا التعسف.

كان الأولى أن يقول لم يعف رسمه

وقوله: "لم يعف رسمها"، لأنه ذكر المنزل، فإن كان ذلك إلى هذه البقاع والأماكن التي المنزل واقع بينها فذلك خلل، لأنه إنما يريد صفة المنزل الذي نزله حبيبه بعفائه، أو بأنه لم يعف دون ما جاوره، وإن أراد بالمنزل الدار حتى أنث فذلك أيضاً خلل، ولو سلم من هذا كله ومما نكره ذكره كراهية التطويل لم نشك في أن شعر أهل زماننا لا يقصر عن البيتين، بل يزيد عليهما ويفضلهما.

ثم قال:

وقوفاً بها صحبي عليًّ مطـيهـمُ

 

يقولون لا تهلِكْ أسىٍ وتجـمَّـل

وإن شفائي عـبـرةٌ مُـهـراقة

 

فهل عند رسمٍ دارس من مُعوَّل?

وليس في البيتين أيضاً معنى بديع، ولا لفظ حسن كالأولين.

بها متأخر في المعنى متقدم في اللفظ

والبيت الأول منهم متعلق بقوله: "قفا نبك"، فكأنه قال: قفا وقوف صحبي بها على مطيهم، أو قفا حال وقوف صحبي، وقوله "بها" متأخر في المعنى وإن تقدم في اللفظ، ففي ذلك تكلف، وخروج من اعتدال الكلام.

ما دام الدمع كافياً فلماذا طلب حيلة أخرى

والبيت الثاني مختل من جهة أنه قد جعل الدمع في اعتقاده شافياً كافياً، فما حاجته بعد ذلك إلى طلب حيلة أخرى، وتجمل ومعول عند الرسوم? ولو أراد أن يحسن الكلام لوجب أن يدخل على أن الدمع لا يشفيه لشدة ما به من الحزن، ثم يسائل هل عند الربع من حيلة أخرى? وقوله:

كدأبك من أمٍٍّ الحُويرثِ قبلها

 

وجارتِها أمِ الرباب بمأسَـل

إذا قامتا تضوَّع المسك منهما

 

نسيم الصَّبا يأتي بريا القرنفُل

البيت الأول قليل الفائدة والثاني فيه تكلُّف

أنت لا تشك في أن البيت الأول قليل الفائدة ليس له مع ذلك بهجة، فقد يكون الكلام مصنوع اللفظ وإن كان منزوع المعنى....

وأما البيت الثاني فوجه التكلف فيه قوله: "إذا قامتا تضوع المسك منهما"، ولو أراد أن يجود أفاد أن بهما طيباً على كل حال، فأما في حال القيام فقط فذلك تقصير.

ثم فيه خلل آخر، لأنه بعد أن شبه عرفها بالمسك، شبه ذلك بنسيم القرنفل، وذكر ذلك بعد ذكر المسك نقص.

وقوله "نسيم الصبا" في تقدير المنقطع عن المصراع الأول لم يصله به وصل مثله.

وقوله:

ففاضت دموعُ العين مني صبـابةً

 

على النحرِ حتى بَلَّ دمعي محمَلي

ألا رُبَّ يومٍ لك مِنْهُـنَّ صـالـحٍ

 

ولا سيما يومٌ بـدارةِ جُـلْـجُـلِ

في البيت الأول حشو

قوله: ففاضت دموع العين، ثم استعانته بقوله "مني" استعانة ضعيفة عند المتأخرين في الصنعة، وهو حشو غير مليح ولا بديع...

وقوله: "على النحر" حشو آخر، لأن قوله "بلَّ دمعي محملي" يغني عنه ويدل عليه، وليس يحشو حسن، ثم قوله: "حتى بلَّ دمعي محملي"، إعادة ذكره الدمع حشو آخر.

وكان يكفيه أن يقول حتى بلت محملي، فاحتاج لإقامة الوزن إلى هذا كله، ثم تقديره أنه قد أفرط في إفاضة الدمع حتى بل محمله تفريط منه وتقصير.

ولو كان أبدع لكان يقول: حتى بل دمعي مغانيهم وعراصهم ويشبه أن يكون غرضه إقامة الوزن والقافية، إذ الدمع يبعد أن يبل المحمل وإنما يقطر من الواقف والقاعد على الأرض أو على الذيل. وإن بله فلقلته وإنه لا يقطر.

وأنت تجد في شعر الخبزرزي ما هو أحسن من هذا البيت وأمتن وأعجب منه.

والبيت الثاني خال من المحاسن والبديع، خلو من المعنى، وليس له لفظ يروق ولا معنى يروع، من طبائع يروع، من طبائع السوقة، فلا يرعك تهويله باسم موضع غريب.

وقال:

ويوم عقرتُ للعذارى مطيتي

 

فيا عجباً من رحلها المتحمَّلِ!

فظل العذارى يرتمينَ بلحمِها

 

وشحمٍ كهُدَّابِ الدِّمَقْسِ المفتَّل

 

 

 

 

 

 

 

في البيت الأول سفاهة

تقديره: اذكر يوم عقرت مطيتي، أو يرده على قوله: "يوم بدارة جلجل". وليس في المصراع الأول من هذا البيت إلا سفاهته.

قال بعض الأدباء؛ قوله "يا عجباً" يعجبهم من سفهه في شبابه من نحره ناقته لهم، وإنما أراد أن لا يكون الكلام من هذا المصراع منقطعاً عن الأول، وأراد أن يكون الكلام ملائماً له.

وهذا الذي ذكره بعيد، وهو منقطع عن الأول، وظاهره أنه يتعجب من تحمل العذارى رحله، وليس في هذا تعجب كبير، ولا في نحر الناقة لهن تعجب، وإن كان يعني به أنهن حملهن رحله. وإن بعضهن حملته، فعبر عن نفسه برحله فهذا قليلاً يشبه أن يكون عجباً، لكن الكلام لا يدل عليه ويتجافى عنه.

ولو أسلم البيت من العيب لم يكن فيه شيء غريب، ولا معنى بديع، أكثر من سفاهته مع قلة معناه، وتقارب أمره، ومشاكلته طبع المتأخرين من أهل زماننا....

وإلى هذا الموضع لم يمر له بيت رائع، وكلام رائق.

وصف طعام الضيف معاب

وأما البيت الثاني فيعدونه حسناً، ويعدون التشبيه مليحاً واقعاً، وفيه شيء، وذلك أنه عرف اللحم ونكر الشحم، فلا يعلم أنه وصف شحمها، وذكر تشبيه أحدهما بشيء واقع، وعجز عن تشبيه القسمة الأولى فمرت مرسلة، وهذا نقص في الصنعة، عجز عن إعطاء الكلام حقه.

وفيه شيء آخر من جهة المعنى، وهو أنه وصف طعامه الذي أطعم من أضاف بالجودة، وهذا قد يعاب، وقد يقال: "إن العرب تفتخر بذلك ولا يرونه عيباً، وإنما الفرس هم الذين يرون هذا عيباً شنيعاً.

تشبيه الشحم بالدمقس من كلام العامة

وأما تشبيه الشحم بالدمقس فشيء قد يقع للعامة، ويجري على ألسنتهم، فليس بشيء قد سبق إليه، وإنما زاد "المفتل" للقافية، وهذا مفيد، ومع ذلك فلست أعلم العامة تذكر هذه الزيادة، ولم يعد أهل الصنعة ذلك من البديع، ورأوه قريباً.

تبجحه بما أطعم الأحباب مذموم

وفيه شيء آخر، وهو أن تبجحه بما أطعم للأحباب مذموم وإن سوغ التبجح بما أطعم للأضياف، إلا أن يورد الكلام مورد المجون، وعلى طريق أبي نواس في المزاح والمداعبة.

وقوله:

ويوم دخلتُ الخِدْرَ خـدِرَ عُـنَـيْزَةٍ

 

فقالت: لكَ الويلاتُ إِنَّك مُرجلـي

تقول وقد مالَ الغبيطُ بـنـا مـعـاً

 

عَقَرْتَ بعيري يا امرأ القيس فانْزِلِ

التكرير لإقامة الوزن مكروه

قوله: "دخلت الخدر خدر عنيزة" ذكره تكريراً لإقامة الوزن، لا فائدة فيه غيره، ولا ملاحة ولا رونق.

وقوله في المصراع الأخير من هذا البيت: "فقالت لك الويلات إنك مرجلي"، كلام مؤنث من كلام النساء، نقله من جهته إلى شعره، وليس فيه غير هذا.

وتكريره بعد ذلك: "تقول وقد مال الغبيط"، يعني قتب الهودج بعد قوله: "فقالت لك الويلات إنك مرجلي" لا فائدة فيه غير تقدير الوزن، وإلا فحكاية قولها الأول كاف، وهو في النظم قبيح، لأنه ذكر مرة "فقالت"، ومرة "تقول" في معنى واحد وفصل خفيف.

في المصراع الثاني تأنيث

وفي المصراع الثاني أيضاً تأنيث من كلامهن... وذكر أبو عبيدة أنه قال: "عقرت بعيري" ولم يقل ناقتي لأنهم يحملون النساء على ذكور الإبل أقوى، وفيه نظر لأن الأظهر أن البعير اسم للذكر والأنثى، واحتاج إلى ذكر البعير لإقامة الوزن.

وقوله:

فقلت لها سيري وأرخي زمامَهُ

 

ولا تُبعديني من جَنَاك المعلَّـل

فمثلك حُبلى قد طرقت ومُرِضع

 

فألهيتها عن ذي تمائمَ مـغـيل

البيت الأول قريب النسج

البيت الأول قريب النسج، ليس له معنى بديع، ولا لفظ شريف، كأنه من عبارات المنحطين في الصنعة. وقوله "فمثلك حبلى قد طرقت" عابه عليه أهل العربية. ومعناه عندهم حتى يستقيم الكلام: فرب مثلك حبلى قد طرقت وتقديره أنه زير نساء وأنه يفسدهن ويلهيهن عن حبلهن ورضاعهن، لأن الحبلى والمرضعة أبعد من الغزل وطلب الرجال.

البيت الثاني غير منتظم المعنى

والبيت الثاني في الاعتذار والاستهتار والتهيام، وغير منتظم مع المعنى الذي قدمه في البيت الأول، لأن تقديره لا تبعديني عن نفسك فإني أغلب النساء. وأخدعهن عن رأيهن، وأفسدهن بالتغازل.

وكونه مفسدة لهن لا يوجب له وصلهن وترك إبعادهن إياه، بل يوجب هجره والاستخفاف به، لسخفه ودخوله فاحش وركوبه كل مركب فاسد، وفيه من الفحش والتفحش ما يستنكف الكريم من مثله، ويأنف من ذكره.

وكقوله:

إذا ما بكى من من خَلْفِها انصرفت له

 

بِشِقٍّ وتحـتـي شـقُّ لـم يُحَـوَّلِ

ويوماً على ظهرِ الكثيبِ تـعـذرت

 

عليَّ وآلت حـلـفةَ لـم تُـحـلَّـلِ

البيت الأول غاية في الفحش

فالبيت الأول غاية في الفحش ونهاية في السخف، وأي فائدة لذكره لعشيقته كيف كان يرتكب هذه القبائح، ويذهب هذه المذاهب، ويرد هذه الموارد? إن هذا ليبغضه كل من سمع كلامه، ويوجب له المقت، وهو لو اصدق لكان قبيحاً، فكيف? ويجوز أن يكون كاذباً? ثم ليس في البيت لفظ بديع ولا معنى حسن، وهذا البيت متصل بالبيت الذي قبله من ذكر المرضع التي لها ولد محول.

البيت الثاني رديء النسج غير مفيد

فأما البيت الثاني وهو قوله: " ويوماً" يتعجب منه، وإنما تشددت وتعسرت عليه وحلفت عليه فهو كلام رديْ النسج، و لا فائدة لذكره لنا أن حبيبته تمنعت عليه يوماً بموضع يسميه ويصفه، وأنت تجد في شعر المحدثين من هذا الجنس في التغزل ما يذوب معه اللب، وتطرب عليه النفس. وهذا مما تستنكره النفس، ويشمئز منع القلب، وليس فيه شيء من الإحسان والحسن.

وقوله:

أفاطم مهلاً بعـضَ هـذا الـتـدلُّـلِ

 

وإن كنتِ قد أزمعتَ صرمي فأجملي

أغرك منـي أن حـبَّـكِ قـاتـلـي

 

وإنك مهما تأمري القلـبَ يفـعـلِ

البيت الأول فيه ركاكة وتخنيث

فالبيت الأول فيه ركاكة جداً، وتأنيث ورقة ولكن فيها تخنيث.....

ولعل قائلاً يقول: إن كلام النساء بما يلائمهن من الطبع أوقع وأغزل. وليس كذلك، لأنك تجد الشعراء في الشعر المؤنث لم يعدلوا عن رصانة قولهم....

والمصراع الثاني منقطع عن الأول لا يلائمه ولا يوافقه، وهذا يبين لك إذا اعترضت معه البيت الذي تقدمه. وكيف ينكر عليها تدللها، والمتغزل يطرب على دلال الحبيب وتدلله?

البيت الثاني قد عيب عليه

والبيت الثاني قد عيب عليه، لأنه قد أخبر أن من سبيلها أن لا تغتر بما يريها من أن حبها يقتله، وأنها تملك قلبه فما أمرته فعله، والمحب إذا أخبر عن مثل هذا صدق، وإن كان المعنى غير هذا الذي عيب عليه، وإنما ذهب مذهباً آخر، وهو أنه أراد أن يظهر التجلد. فهذا خلاف ما أظهر من نفسه فيما تقدم من الأبيات، من الحب والبكاء على الأحبة، فقد دخل في وجه آخر من المناقضة والإحالة في الكلام? ثم قوله: "تأمري القلب يفعل" معناه تأمريني والقلب لا يؤمر، والاستعارة في ذلك غير واقعة ولا حسنة.

وقوله:

فإن كنت قد ساءتكِ مني خليقةٌ

 

فسُلِّي ثيابي عنثيابك تَنْـسَـلِ

وما ذرفتْ عيناكِ إلا لتَضربي

 

بسهميك في أعشارِ قلبٍ مُقتَّل

أضاف إلى نفسه سقوطاً وسفهاً

البيت الأول قد قيل في تأويله: إنه ذكر الثوب وأراد البدن، مثل قول الله تعالى: "وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ"، وقال أبو عبيدة: هذا مثل للهجر، وتنسل: تبين.

وهو بيت قليل المعنى ركيكه وضيعه، وكل ما أضاف إلى نفسه ووصف به نفسه سقوط وسفه وسخف يوجب قطعه، فلم لم يحكم على نفسه بذلك، ولكن يورده مورد أن ليست له خليقة توجب هجرانه والتقصي من وصله، وأنه مهذب الأخلاق، شريف الشمائل، فذلك يوجب أن لا ينفك من وصاله... والاستعارة في المصراع الثاني فيها تواضع وتقارب، وإن كانت غريبة...

ما في البيت الثاني من المآخذ

وأما البيت الثاني فمعدود من محاسن القصيدة وبدائعها، ومعناه ما بكيت إلا لتجرحي قلباً معشراً أي مكسراً من قولهم "برمة أعشار" إذا كانت قطعاً هذا تأويل ذكره الأصمعي رضي الله عنه، وهو أشبه عند أكثرهم.

 

وقال غيره: وهذا مثل للأعشار التي تقسم الجزور عليها، ويعني بسهميك: المعلى وله سبعة أنصباء، والرقيب وله ثلاثة أنصباء. فأراد أنك ذهبت بقلبي أجمع..

ويعني بقوله: "مقتل": مذلل، وأنت تعلم أنه على ما يعني به، فهو غير موافق للأبيات المتقدمة، لما فيها من التناقض الذي بينا، ويشبه أن يكون من قال بالتأويل الثاني فزع إليه، لأنه رأى اللفظ مستكرهاً على المعنى الأول، لأن القائل إذا قال: "ضرب فلان بسهمه في الهدف بمعنى أصابه، كان كلاماً ساقطاً مرذولاً، وهو يرى أن معنى الكلمة أن عينيها كالسهمين النافذين في إصابة قلبه المجروح، فلما بكتا وذرفتا بالدموع كانتا ضاربتين في قلبه.

ولكن من حمل على التأويل الثاني سلم من الخلل الواقع في اللفظ، ولكنه إذا حمل على الثاني فسد واختل، لأنه إن كان محتاجاً على ما وصف به نفسه من الصبابة فقلبه كله لها، فكيف يكون بكاؤها هو الذي يخلص قلبه لها?

البيت الثاني غير ملائم للبيت الأول

واعلم بعد هذا أن البيت غير ملائم للبيت الأول ولا متصل به في المعنى، وهو منقطع عنه، لأنه لم يسبق كلام يقتضي بكاءها، ولا سبب يوجب ذلك، فتركيبة هذا الكلام على ما قبله فيه اختلال، ثم لو سلم له بيت من عشرين بيتاً وكان بديعاً ولا عيب فليس بعجيب، لأنه لا يدعي على مثله أن كلامه كله متناقض، ونظمه كله متباين. وإنما يكفي أن نبين أن ما سبق من كلامه إلى هذا البيت مما لا يمكن أن يقال إنه يتقدم فيه أحداً من المتأخرين فضلاً عن المتقدمين.

قدم في شعره لأبيات برع فيها

وإنما قدم في شعره لأبيات قد برع فيها، وبان حذقه بها، وإنما أنكرنا أن يكون شعره متناسباً في الجودة، ومتشابهاً في صحة المعنى واللفظ، وقلنا: إنه يتصرف بين وحشي غريب مستنكر كالمهل مستنكرة، وبين كلام سليم متوسط، وبين عامي سوقي في اللفظ والمعنى، وبين حكمة حسنة، وبين سخف مستشنع، ولهذا قال الله عز اسمه: "وَلَوْ كَانَ مِنْ عِند غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيه اخْتِلاَفاً كَثِيراً" فأما قوله:

وبيضةِ خدرٍ لا يُرامُ خبـاؤُهـا

 

تمتعت من لهوٍ بها غيرِ مُعجَّل

تجاوزت أحراساً إليها ومعشراً

 

عليَّ حِراصاً لو يُسِرُّون مقتلي

بيضة الخدر تشبيه سائر

فقد قالوا: عني بذلك أنها كبيضة خدر في صفائها ورقتها، وهذه كلمة حسنة ولكن لم يسبق إليها، بل هي دائرة في أفواه العرب، وتشبيه سائر.

ويعني بقوله: "غير معجل" أنه ليس ذلك مما يتفق قليلاً وأحياناً، بل يتكرر له الاستمتاع بها، وقد يحمله غيره على أنه رابط الجأش فلا يستعجل إذا دخلها خوف حصانتها ومنعتها.

وليس في البيت كبير فائدة

وليس في البيت كبير فائدة، لأنه الذي حكى في سائر أبياته، فلا تتضمن مطاولته في المغازلة واشتغاله بها، فتكريره في هذا البيت مثل ذلك قليل المعنى، إلا الزيادة التي ذكر من منعتها، وهو مع ذلك بيت سليم اللفظ في المصراع الأول دون الثاني.

والبيت الثاني ضعيف. وقوله: "لو يسرون مقتلي" أراد أن يقول لو أسروا، فإذا نقله إلى هذا ضعف ووقع في مضمار الضرورة. والاختلال على نظمه بيّن، حتى إن المحترز يحترز من مثله.

وقوله:

إذا ما الثُريا في السماء تعرضت

 

تعرض أثناء الوِشاح المفصَّـلِ

الثريا لا تتعرض

قد أنكر عليه قوم قوله: "إذا ما الثريا في السماء تعرضت" وقالوا: الثريا لا تتعرض، حتى قال بعضهم: سمى الثريا وإنما أراد الجوزاء، لأنها تعرض، والعرب تفعل ذلك، كما قال زهير: "كأحمر عاد" وإنما هو أحمر ثمود.

وقال بعضهم في تصحيح قوله: "تعرض": أول ما تطلع، كما أن الوشاح إذا طرح يلقاك بعرضه وهو ناحيته، وهذا كقول الشاعر:

تعرضت لي بمجان خـلٍ

 

تعرض المهرة في الطول

يقول: تريك عرضها وهي في الرسن.

أبو عمرو يشرح البيت

وقال أبو عمرو: يعني إذا أخذت الثريا في وسط السماء، كما يأخذ الوشاح وسط المرأة. والأشبه عندنا أن البيت غير معيب من حيث عابوه به، وأنه من محاسن هذه القصيدة، ولولا أبيات عدة فيه لقابله ما شئت من شعر غيره، ولكن لم يأت فيه بما يفوت الشأو ويستولي على الأمد.

المتقدمون والمتأخرون أكثروا من وصف الثريا

أنت تعلم أنه ليس للمتقدمين ولا للمتأخرين في وصف شيء من النجوم مثل ما في وصف الثريا وكل قد أبدع فيه وأحسن، فإما أن يكون قد عارضه أو زاد عليه.. فمن ذلك قول ذي الرمة.

وردت اعتسافاً والثريا كأنـهـا

 

على قمة الرأس ابن ماء محلق

ومن ذلك قول ابن المعتز:

وترى الثُريا في السماء كأنها

 

بيضاتُ أدحى يلُحْن بفدفـد

وكقوله:

كأن الثريا في أواخر ليلها

 

تفتحُ نَوْرٍ أو لجام مُفَضَّضِ

وقوله أيضاً:

فناوَلِنـيهـا والـثـريا كـأنـهـا

 

جنى نَرجسٍ حيّا الندامى به الساقي

وقول الأشهب بن رميلة:

ولاحت لساريها الثريا كأنـهـا

 

لدى الأفقِ الغربيِّ قرطُ مسلسلِ

ولابن المعتز:

وقد هوى النجمُ والجوزاءُ تتبعه

 

كذاتِ قُرطٍ أرادَتْهُ وقد سقطا

أخذه من ابن الرومي في قوله:

طيبٌٌ ريقُه إذا ذُقـتَ فـاه

 

والثريا بجانب الغربِ قُرطُ

ولابن المعتز:

قد سقانـي الـمـدامَ

 

والصبح بالليل مُؤتزر

والثريا كنَوْرِ غُصـنٍ

 

على الأرض قد نُثِر

وقوله:

وتـروم الـثـريا

 

في السماء مَراما

كانكبابِ طِـمْـرٍ

 

كاد يلقى لجامـا

ولابن الطثرية:

إذا ما الثريا في السماء كأنها

 

جُمانٌ وهي من سلكه فتبدَّدا

وصف الثريا ليس فيه شيء غريب

ولو نسخت لك كل ما قالوا من البديع في وصف الثريا، لطال عليك الكتاب، وخرج عن الغرض، وإنما نريد أن نبين لك أن الإبداع في نحو هذا أمر قريب، وليس فيه شيء غريب، وفي جملة ما نقلناه ما يزيد على تشبيهه في الحسن أو يساويه أو يقاربه.

ما حلق به امرؤ القيس هو أمر مشترك وطريق مسلوك

فقد علمت أن ما حلق فيه، وقدر المتعصب له أنه بلغ النهاية فيه، أمر مشترك، وشريعة مورودة، وباب واسع، وطريق مسلوك.

وإذا كان هذا بيت القصيدة، ودرة القلادة، وواسطة العقد؛ وهذا محله فكيف بما تعداه?..

في وصف الثريا تكلف

ثم فيه ضرب من التكلف، لأنه قال: "إذا ما الثريا في السماء تعرضت تعرض أثناء الوشاح"، فقوله: "تعرضت" من الكلام يستغنى عنه، لأنه يشبه أثناء الوشاح سواء كان في وسط السماء أو عند الطلوع والمغيب، فالتهويل بالتعرض، والتطويل بهذه الألفاظ، لا معنى له.

وفيه أن الثريا كقطعة من الوشاح المفصل، فلا معنى لقوله: "تعرض أثناء الوشاح" وإنما أراد أن يقول: تعرض قطعة من أثناء الوشاح، فلم يستقم له اللفظ، حتى ما هو كالشيء الواحد بالجمع.

وقوله:

فجئت وقد نَضَّت لنومٍ ثيابَـهـا

 

لدى السِّتر إلا لبَسة المتفضِّـلِ

فقالت: يمينُ اللهِ ما لـك حـيلةٌ

 

وما إن أرى عنك العماية تنجلي

خلط في النظم وفرط في التأليف

أنظر في البيت الأول والأبيات التي قبله، كيف خلط في النظم، وفرط في التأليف، فذكر التمتع بها، وذكر الوقت والحال والحراس، ثم يذكر كيف كانت صفتها لما دخل عليها، ووصل إليها، من نزعها ثيابها إلا ثوباً واحداً، والمتفضل الذي في ثوب واحد وهو الفضل، فما كان من سبيله أن يقده إنما ذكره مؤخراً.

وقوله: "لدى الستر" حشو، وليس بحسن ولا بديع، وليس في البيت حسن، ولا شيء يفضل لأجله.

البيت الثاني فيه تعليق واختلال

وأما البيت الثاني ففيه تعليق واختلال، ذكر الأصمعي أن معنى قوله: "مالك حيلة": أي ليست لك جهة تجيء فيها والناس حوالي، والكلام في المصراع الثاني منقطع عن الأول، ونظمه إليه فيه ضرب من التفاوت.

وقوله:

فقمت بها أمشي تجُرُّ وراءنـا

 

على إثرنا أذيال مِرطٍ مُرَجَّـل

فلما أجزنا ساحة الحي وانتحى

 

بنا بطنُ خُبتٍ ذي حقافٍ عقنقل

في البيت الأول تكلف

البيت الأول من مساعدتها إياه، حتى قامت معه، ليخلوا، وإنما كانت تجر على الأثر أذيال مرط مرجل، والمرجل: ضرب من البرود يقال لوشيه الترجيل، وفيه تكلف، لأنه قال: "وراءنا على إثرنا": ولو قال "على إثرنا"، كان كافيا".

لا فائدة من ذكر وراءنا

والذيل إنما يجر وراء الماشي، فلا فائدة لذكره. "وراءنا"، وتقدير القول فقمت أمشي بها، وهذا أيضاً ضرب من التكلف.

 

وقوله: " أذيال مرط" كان من سبيله أن يقول: ذيل مرط ، على أنه لو سلم من ذلك كان قريباً ليس مما يفوت بمثله غيره، ولا يتقدم به سواه.

قول ابن المعتز أحسن منه

فبت أفرش خدي في الطريق له

 

ذُلاً، وأسحبُ أذيالي على الأثرِ

البيت الثاني متفاوت مع ما تقدم

وأما البيت الثاني فقوله: "أجزنا" بمعنى قطعنا، والخبت: بطن من الأرض، والحقف: رمل معوج، والعقنقل: المنعقد من الرمل الداخل بعضه في بعض.

وهذا بيت متفاوت مع الأبيات المتقدمة، لأن فيها ما هو سلس قريب يشبه كلام المولدين وكلام البذلة، وهذا قد أغرب فيه، وأتى بهذه اللفظة الوحشية المتعقدة، وليس في ذكرها والتفضيل بإلحاقها بكلامها فائدة.

في البيت لفظة غريبة مباينة لنسج الكلام

والكلام الغريب، واللفظة الشديدة المباينة لنسج الكلام، قد تحمد إذا وقعت موقع الحاجة في وصف ما يلائمها، كقوله عز وجل في وصف يوم القيامة: "يَوْمَاً عَبُوساً قَمْطَرِيراً".

فأما إذا وقعت في غير هذا الموقع فهي مكروهة مذمومة بحسب ما تحمد في موضعها.

أنكروا على جرير لفظة قبيحة في أبيات جميلة

وروي أن جريراً أنشد بعض خلفاء بني أمية قصيدته:

بان الخليطُ برامتينِ فودعوا

 

أو كلما جَدُّوا لبينٍ تجزعُ?

كيف العزاءُ ولم أجد مُذ بِنْتُمُ

 

قلباً يقرُّ ولا شراباً يَنْقَـعُ?

قال: وكان يزحف من حس هذا الشعر حتى بلغ قوله:

وتقول بَوْزَعُ: قد دببت على العصا

 

هلاّ هزِئتِ بغـيرنـا يا بـوزعُ

فقال أفسدت شعرك بهذا الاسم.

وأما قوله:

هصرتُ بغصني دوحةٍ فتمايلت

 

عليّ هضيم الكشحِ ريا المخلخَل

مهفهفةٌ بيضاءُ غيرُ مُـفـاضةٍ

 

ترائِبُها مصقولةٌ كَالسَّجَنْـجَـل

في قوله هصرت بغصني دوحة تعسف

فمعنى قوله:"هصرت": جذبت وثنيت، وقوله:"بغصني دوحة" تعسف ولم يكن من سبيله أن يجعلهما اثنين: والمصراع الثاني أصح وليس فيه شيء إلا ما يتكرر على ألسنة الناس من هاتين الصفتين.

وأنت تجد ذلك في وصف كل شاعر، ولكنه مع تكرره على الألسن صالح.

البيت ينزع إلى ألفاظ مستكرهة

ومعنى قوله: " مهفهفة " أنها مخففة ليست مثقلة، والمفاضة التي اضطرب طولها، والبيت مع مخالفته في الطبع الأبيات المتقدمة، ونزوعه فيه إلى الألفاظ المستكرهة، وما فيه من الخلل من تخصيص الترائب بالضوء بعد ذكر جميعها بالبياض ليس بطائل، ولكنه قريب متوسط.

وقوله:

تَصُدُّ وتُبدي عن أسيل وتتـقـي

 

بناظرةٍ من وحشِ وجرةَ مُطفلِ

وجيدٍ كجيد الرِّيم ليس بفاحـشٍ

 

إذا هي نصته ولا بمعـطَّـل

ومعنى قوله: "عن أسيل" أي بأسيل، وإنما يريد خد ليس بكز.

وقوله: "تصد وتبدي عن أسيل" متفاوت، لأن الكشف عن الوجه مع الوصل دون الصد.

وقوله: "تتقي بناظرة" لفظة مليحة، ولكن أضافها إلى ما نظم به كلامه وهو مختل وهو قوله: "من وحش وجرة".

كان الأولى أن يضيف إلى عيون الظباء لا الوحش

وكان يجب أن تكون العبارة بخلاف هذا، كان من سبيله أن يضيف إلى عيون الظباء أو المها دون إطلاق الوحش، ففيهم ما تستنكر عيونها.

وقوله: "مطفل" فسروه على أنها ليست بصبية وأنها قد استحكمت، وهذا اعتذار متعسف، وقوله: "مطفل" زيادة لا فائدة فيها على هذا التفسير الذي ذكره الأصمعي، ولكن قد يحتمل عندي أن يفيد غير هذه الفائدة فيقال إنها إذا كانت مطفلاً لحظت أطفالها بعين رقة، ففي نظر هذه رقة نظر المودة، ويقع الكلام معلقاً تعليقاً متوسطاً.

في أشعار العرب من وصف الأعناق ما يشبه السحر

وأما البيت الثاني فمعنى قوله: "ليس بفاحش" أي ليس بفاحش الطول، ومعنى قوله: "نصته" رفعته، ومعنى قوله: "ليس بفاحش" في مدح الأعناق كلام فاحش موضوع منه.

وإذا نظرت في أشعار العرب رأيت في وصف الأعناق ما يشبه السحر، فكيف وقع على هذه الكلمة، ودفع إلى هذه اللفظة? وهلاّ قال كقول أبي نواس:

مثلُ الظباء سمـت إلـي

 

روضٍ صوادرُ عن غديرٍ

أن كنت من أهل الصنعة فطنت واكتفيت

ولست أطول عليك فاستثقل، ولا أكثر القول في ذمة فتستوحش، وأكلك الآن إلى جملة من القول، فإن كنت من أهل الصنعة فطنت واكتفيت وعرفت ما رمينا إليه واستغنيت؛ وإن كنت من الطبقة خارجاً، وعن الإتقان بهذا الشأن خالياً، فلا يكفيك البيان وإن استقرينا جميع شعره، وتتبعنا عامة ألفاظه، ودللنا على ما في كل حرف منه.

من هذه القصيدة ترددت أبيات سوقية

اعلم أن هذه القصيدة قد ترددت بين أبيات سوقية مبتذلة، وأبيات متوسطة، وأبيات ضعيفة مرذولة، وأبيات وحشية غامضة مستكرهة وأبيات معدودة بديعة، وقد دللنا على المبتذل منها، ولا يشتبه عليك الوحشي المستنكر الذي يروع السمع، ويهول القلب، ويكد اللسان، ويعبس معناه في وجه كل خاطر، ويكفهر مطلعه على كل متأمل أو ناظر، ولا يقع بمثله التمدح والتفاصح، وهو مجانب لما وضع له أصل الإفهام، ومخالف لما بني عليه التفاهم بالكلام، فيجب أن يسقط عن الغرض المقصود، ويلحق باللغز والإشارات المستبهمة.

ما زعموا أنه من بديع هذا الشعر

فأما الذي زعموا أنه من بديع هذا الشعر فهو قوله:

ويضحي فتيتُ المسكِ فوق فراشها

 

نؤوم الضُحى لم تنتطقْ عن تفضل

والمصراع الأخير عندهم بديع، ومعنى ذلك أنها مترفة متنعمة، لها من يكفيها، ومعنى قوله: "لم تنتطق عن تفضيل" يقول لم تنتطق وهي فضل وعن: هي بمعنى بعد، قال أبو عبيدة: لم تنتطق فتعمل ولكنها تتفضل.

الشكوى من طول الليل

ومما يعدونه من محاسنها:

وليلٍ كموج البحر أرخى سُدُوله

 

عليَّ بأنواع الهموم ليبـتـلـي

فقلت له لما تمطَّى بصُـلـبـه

 

وأردفَ أعجازاً وناء بكلكـلِ

ألا أيها الليلُ الطويلُ ألا انجلي

 

بصبحٍ وما الإصباحُ منك بأمثلِ

النابغة يصف طول الليل ويجيد

وكان بعضهم يعارض هذا بقول النابغة:

كليني لهـمٍّ يا أمـيمةُ نـاصـبٍ

 

وليلٍ أقاسيه بطيء الـكـواكـبٍ

وصدر أراح الليلُ عازبَ هـمـه

 

تضاعفَ فيه الحزنُ من كلِّ جانب

تقاعسَ حتى قلتُ ليس بمنـقـضٍ

 

وليس الذي يتلو النـجـوم بـآيب

إعجاب الخلفاء بوصف امرئ القيس الليل

وقد جرى ذلك بين يدي بعض الخلفاء، فقدمت أبيات امرئ القيس واستحسن استعارتها، وقد جعل لليل صدراً يثقل تنحيه، ويبطىء تقضيه، وجعل له أردافاً كثيرة، وجعل له صلباً يمتد ويتطاول، ورأوا هذا بخلاف ما يستعيره أبو تمام من الاستعارات الوحشية البعيدة المستنكر، ورأوا أن الألفاظ جميلة.. واعلم أن هذا صالح جميل، وليس من الباب الذي يقال إنه متناه عجيب، وفيه إلمام بالتكلف، ودخول في التعمل.

القصيدة تحتوي على بديع

وقد خرجوا له في البديع من القصيدة قوله:

وقد اغتدي والطير في وكنـاتـهـا

 

بمنجـردٍ قـيدِ الأوابـد هـيكـل

مِكَرٍ مِفَرٍ مُقْبـلٍ مـدبـرٍ مـعـاً

 

كجُلْمًود صخرٍ حطَّه السيلُ من علِ

وقول أيضاً:

له أيطلا ظبي وساقا نعـامةٍ

 

وإرخاء سَرْحانٍ وتقريبُ تتفُل

فأما قوله: "قيد الأوابد" فهو مليح، ومثله في كلام الشعراء وأهل الفصاحة كثير، والتعمل بمثله ممكن.. وأهل زماننا الآن يصنفون نحو هذا تصنيفاً، ويؤلفون المحاسن تأليفاً، ثم يوشحون به كلامهم. والذين كانوا من قبل لغزارتهم وتمكنهم لم يكونوا يتصنعون لذلك، إنما كان يتفق لهم اتفاقاً، ويطرد في كلامهم اطراداً.

أجاد في وصف الفرس ولكنه عورض وزوحم

وأما قوله في وصفه: "مكر مفر" فقد جمع فيه طباقاً وتشبيهاً، وفي سرعة جري الفرس للشعراء ما هو أحسن من هذا وألطف، وكذلك في جمعه بين أربعة وجوه من التشبيه في بيت واحد صنعة، ولكن قد عورض فيه وزوحم، والتوصل إليه يسير، وتطلبه سهل قريب.

هذه القصيدة تتفاوت في أبياتها في الجودة والرداءة

وقد بينا لك أن هذه القصيدة ونظائرها تتفاوت في أبياتها تفاوتاً بيناً، في الجودة والرداءة، والسلاسة والانعقاد، والسلامة والانحلال، والتمكن والتسهل، والاسترسال والتوحش والاستكراه.

لامرئ القيس شركاء في نظائرها

وله شركاء في نظائرها، ومنازعون في محاسنها، ومعارضون بدائعها، ولا سواء كلام ينحت من الصخر ويذوب تارة، ويتلون تلون الحرباء ويختلف اختلاف الأهواء، ويكثر في تصرفه اضطرابه، وتتقاذف به أسبابه، وبين قول يجري في سبكه على نظام، وفي رصفه على منهاج، وفي وضعه على حد، وفي صفائه على باب، وفي بهجته ورونقه على طريق. مختلفة مؤتلف، ومؤتلفه متحد، ومتباعده متقارب، وشارده مطيع، ومطيعه شارد. وهو على متصرفاته واحد، لا يستصعب في حال، ولا يتعقد في شأن.

كنا نحب أن نتكلم في قصائد مشهورة

وكنا أردنا أن نتصرف في قصائد مشهورة فنتكلم عليها، وندل على معانيها ومحاسنها، ونذكر لك من فضائلها ونقائصها، ونبسط لك القول في هذا الجنس، ونفتح عليك في هذا النهج.

الإكثار من ذكر الفضائل والنواقص يخرج بنا إلى النقد

ثم رأينا هذا خارجاً عن غرض كتابنا، والكلام فيه يتصل بنقد الشعر وعياره ، و وزنه بميزانه ومعياره، ولذلك كتب وإن لم تكن مستوفاة، وتصانيف وإن لم مستقصاة.. وهذا القدر يكفي في كتابنا.

لم نذكر أخطاء امرئ القيس في العروض والنحو

ولم نحب أن ننسخ لك ما سطره الأدباء في خطأ امرئ القيس في العروض والنحو والمعاني، وما عابوه عليه في أشعاره، وتكلموا به على ديوانه، لأن ذلك أيضاً خارج عن غرض كتابنا، ومجانب لمقصوده.

طريقة الشعر شريعة مورودة

وإنما أردنا أن نبين الجملة التي بيناها، لتعرف أن طريقة الشعر شريعة مورودة، ومنزلة مشهورة، يأخذ منها أصحابها على مقادير أسبابهم، ويتناول منها ذووها على حسب أحوالهم. وأنت تجد للمتقدم معنى قد طمسه المتأخر بما أبَّر عليه فيه، وتجد للمتأخر معنى قد أغفله المتقدم، وتجد معنى قد توافدا عليه، وتوافياً إليه، فهما فيه شريكا عنان، وأنهما فيه رضيعا لبان، والله يؤتي فضله من يشاء.

عود إلى إعجاز القرآن

فأما نهج القرآن ونظمه وتأليفه ورصفه، فإن العقول تتيه في جهته، وتحار في بحره، وتضل دون وصفه. نحن نذكر لك في تفصيل هذا ما تستدل به على الغرض، وتستولي به على الأمد، وتصل به إلى المقصد، وتتصور إعجازه كما تتصور الشمس، وتتيقن تناهي بلاغته كما تتيقن الفجر، وأقرب عليك الغامض، وأسهل لك العسير.

إعجاز القرآن علم شريف

واعلم أن هذا علم شريف المحل، عظيم المكان، قليل الطلاب، ضعيف الأصحاب، ليست له عشيرة تحميه، ولا أهل عصمة تفطن لما فيه. وهو أدق من السحر، وأهول من البحر، وأعجب من الشعر، وكيف لا يكون كذلك وأنت تحسب أن وضع الصبح في موضع الفجر يحسن في كل كلام إلا أن يكون شعراً أو سجعاً، وليس كذلك، فإن إحدى اللفظتين قد تنفر في موضع، وتزل عن مكان لا تزل عنه اللفظة الأخرى، بل تتمكن فيه وتضرب بجرانها، وتراها في مظانها وتجدها فيه غير منازعة إلى أوطانها، وتجد الأخرى - لو وضعت موضعها - في محل نفار ومرمى شراد، ونابية عن استقرار.

لكل شيء سبب ولكل علم طريق

ولا أكثر عليك المثال، ولا أضرب لك فيه الأمثال، وأرجع بك إلى ما وعدتك من الدلالة، وضمنت لك من تقريب المقالة، فإن كنت لا تعرف الفصل الذي بينا بين اللفظتين على اختلاف مواقع الكلام، ومتصرفات مجاري النظام، لم تستفد مما نقربه عليك شيئاً، وكان التقليد أولى بك، والاتباع أوجب عليك، ولكل شيء سبب ولكل علم طريق، ولا سبيل إلى الوصول إلى الشيء من غير طريقه، ولا بلوغ غايته من غير سبيله.

خذ الآن - هداك الله - في تفريغ الفكر، وتخلية البال، وانظر فيما نعرض عليك، ونهديه إليك، متوكلاً على الله، ومعتصماً به، مستعيداً به من الشيطان الرجيم، حتى تقف على إعجاز القرآن العظيم.

الله تعالى يصف القرآن الكريم

قال : " ولو أن قرآناً سيرتْ به الجبالُ أو قطعت به الأرض أو كّلم به الموتى بل للهِ الأمرُ جميعاً ".

 

سماه الله عز ذكره حكيماً وعظيماً ومجيداً، وقال: "لاَ يَأْتِيِه الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنزيلٌ مِنْ حَكيمٍ حَميدٍ".

 

وقال: "لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأيتَهُ خَاشِعاً مُّتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيةِ اللّهِ وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْربُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّروُنَ".

وقال: "قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ والْجنُّ عَلَى أن يَأْتُواْ بِمثْلِ هَذَا الْقُرآنِ لاَ يأْتُونَ بِمثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبِعضْ ظَهيراً".

القرآن هو المخرج من الفتنة

وأخبرنا أحمد بن محمد بن الحسين القزويني ، حدثنا أبو عبد الرحمن أحمد بن عثمان، حدثنا أبو يوسف الصيدلاني، حدثنا محمد ابن سلمة، عن أبي سنان، عن عمر بن مرة، عن أبي البختري الطائي، عن الحارث الأعور، عن علي رضي الله عنه، قال: قيل: يا رسول الله أمتك ستفتتن من بعدك، فسأل أو سئل: ما المخرج من ذلك? فقال: "بكتاب الله العزيز الذي "لاَ يَأْتِيهِ الْبَاطلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكيْمٍ حَمِيدٍ" من ابتغى العلم في غيره أضله الله، ومن ولي هذا من جبار فحكم بغيره قصمه الله وهو الذكر الحكيم، والنور المبين، والصراط المستقيم. فيه خبر من قبلكم، وتبيان من بعدكم، وهو فصل ليس بالهزل، وهو الذي سمعته الجن فقالوا: "إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً، يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فآمَنْا بِهِ" لا يخلق على طول الرد، ولا ينقضي عبره، ولا تفنى عجائبه.

وأخبرني أحمد بن علي بن الحسن، أخبرنا أبي، أخبرنا بشر ابن عبد الوهاب، أخبرنا هشام بن عبيد الله، حدثنا المسيب بن شريك، عن عبيدة، عن أسامة، ابن أبي عطاء، قال: أرسل النبي صلى الله عليه وسلم إلى علي رضي الله عنه في ليلة. فذكر نحو ذلك في المعنى، وفي بعض ألفاظه اختلاف.

من قرأ القرآن أعطي النبوة ولكن لا يوحى إليه

وأخبرنا أحمد بن علي بن الحسن، أخبرنا أبي، أخبرنا بشر بن عبد الوهاب، أخبرنا هشام بن عبيد الله، حدثنا المسيب بن شريك، عن بشر ابن نمير، عن القاسم، عن أبي أمامة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قرأ ثلث القرآن أعطي ثلث النبوة ومن قرأ نصف القرآن أعطي نصف النبوة، ومن قرأ القرآن كله أعطي النبوة كلها، غير أنه لا يوحى إليه".. وذكر الحديث.

أثر القرآن في العباد والبلاد

ولو لم يكن من عظم شأنه إلا أنه طبق الأرض أنواره، وجلل الآفاق ضياؤه، ونفذ في العالم حكمه، وقبل في الدنيا رسمه، وطمس ظلام الكفر بعد أن كان مضروب الرواق، ممدود الأطناب، مبسوط الباع، مرفوع العماد، ليس على الأرض من يعرف الله حق معرفته، أو يعبده حق عبادته، أو يدين بعظمته، أو يعلم علو جلالته، أو يتفكر في حكمته، لكان كما وصفه الله تعالى جل ذكره من أنه نور فقال: "وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرنَا، مَا كُنتَ تَدْرِي ما الْكِتَابُ وَلاَ الإِيمَانُ، وَلَكنِ جَعَلْنَاهُ نُوراً نَّهدي بِهِ مَن نَّشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا، وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ"

القرآن روح من أمر الله

فانظر إن شئت إلى شريف هذا النظم، وبديع هذا التأليف، وعظيم هذا الرصف، كل كلمة من هذه الآية تامة، وكل لفظ بديع واقع.. قوله: "وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا" يدل على صدوره من الربوبية، ويبين عن وروده عن الآلهية، وهذه الكلمة بمنفردها وأخواتها كل واحدة منها لو وقعت بين كلام كثير تميز عن جميعه، وكان واسطة عقده، وفاتحة عقده، وغرة شهره، وعين دهره.

القرآن نور يدهي العباد

وكذلك قوله: "وَلَكَنْ جَعَلْنَاهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَن نَّشَاءُ مِن عِبَاِدِنَا"، فجعله روحاً لنه يحيي الخلق، فله فضل الأرواح في الأجساد، وجعله نوراً، لأنه يضيء ضياء الشمس في الآفاق ثم أضاف وقوع الهداية به إلى مشيئته، ووقف وقوف الاسترشاد به على إرادته، وبيّن أنه لم يكن ليهتدي إليه لولا توفيقه، ولم يكن ليعلم ما في الكتاب ولا الإيمان لولا تعليمه، وإنه لم يكن ليهتدي فكيف كان يهدي لولاه، فقد صار يهدي ولم يكن من قبل ذلك ليهتدي، فقال: "وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا في السَّمَوَاتِ وَمَا الأَرضِ أَلاَ إلى اللَّهِ تَصِيرُ الأُمُورُ".

فانظر إلى هذه الكلمات الثلاث، فالكلمتان الأوليان مؤتلفتان، وقوله: "أَلاَ إِلى اللَّهِ تَصِيْرُ الأُمُورُ" كلمة منفصلة مباينة للأولى، وقد صيرها شريف النظم أشد ائتلافاً من الكلام المؤالف، وألطف انتظاماً من الحديث الملائم، وبهذا يبين فضل الكلام وتظهر فصاحته وبلاغته.

ظهور قدرة الله ونفاذ أمره

الأمر أظهر والحمد لله، والحال أبين من أن يحتاج إلى كشف تأمل قوله: "فَالِقُ الإِصْباحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناُ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَاناً ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ".

أنظر إلى هذه الكلمات الأربع التي ألف بينها، واحتج بها على ظهور قدرته، ونفاذ أمره، أليس كل كلمة منها في نفسها غرة، وبمفردها درة? وهو مع ذلك يبين أنه يصدر عن علو الأمر، ونفاذ القهر، ويتجلى في بهجة القدرة ويتحلى بخالصة العزة، ويجمع السلاسة إلى الرصانة، والسلامة إلى المتانة، والرونق الصافي، والبهاء الضافي.

ولست أقول إنه شمل الإطباق المليح، والإيجاز اللطيف، والتعديل والتمثيل، والتقريب والتشكيل، وإن كان قد جمع ذلك وأكثر منه، لأن العجيب ما بينا من انفراد كل كلمة بنفسها، حتى يصلح أن تكون عين رسالة أو خطبة، أو وجه قصيدة أو فقرة، فإذا ألفت ازدادت حسناً وزادتك إذا تأملت معرفة وإيماناً.

كل لفظة وكل كلمة تتضمن شرط القول البليغ

ثم تأمل قوله: "وَآيةٌ لهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النهَارَ فَإِذَا مُّظْلِمُونَ. وَالْشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍ لّهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ العَزِيزِ الْعَلِيمِ. وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى كَالعُرجُونِ الْقَدِيمِ". هل تجد كل لفظة، وهل تعلم كل كلمة، تستقل بالاشتمال على نهاية البديع، وتتضمن شرط القول البليغ?.. فإذا كانت الآية تنتظم من البديع، وتتألف من البلاغات، فكيف لا تفوت حد المعهود، ولا تحوز شأو المألوف? فكيف لا تحوز قصب السبق، ولا تتعالى عن كلام الخلق?

أقصد إلى سورة النمل مثلاً فتصرف في معرفة قصصها

ثم أقصد إلى سورة تامة، فتصرف في معرفة قصصها، وراع ما فيها من براهينها وقصصها، تأمل السورة التي يذكر فيها النمل، وانظر في كلمة كلمة وفصل فصل.

أتى القرآن على ذكر القصة بضروب مختلفة

بدأ بذكر السورة، إلى أن بين أن القرآن من عنده، فقال: "وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرآنَ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ"، ثم وصل بذلك قصة موسى عليه السلام وأنه رأى ناراً فقال لأهله امكثوا: "إِنّيِ آنَسْتُ نَاراً سَأَتِيكُم منها بِخَبَرٍ أوْ آتِيكُم بِشهابٍ قَبَسٍ لَّعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ".

وقال في سورة طه في هذه القصة: "لَعَّلَّيِ آتِيكُم مِنْها بِقَبَسٍ أَوْ أَجدُ عَلَى النَّارِ هُدَّى".

وفي مواضع: "لعلِّي آتِيكُم مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَة مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ"، قد تصرف في وجوه، وأتى بذكر القصة على ضروب ليعلمهم عجزهم عن جميع طرق ذلك.

تحداهم أن يأتوا بحديث مثله

ولهذا قال: "فَلْيَأْتُواْ بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ"، ليكون أبلغ في تعجيزهم، وأظهر للحجة عليهم. وكل كلمة من هذه الكلمات وإن أنبأت عن قصة، فهي بليغة بنفسها، تامة في معناها.

انظر إلى علو أمر النداء

ثم قال: "فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ أَن بُورِكَ مَن فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالمِينَ". فانظر إلى ماجرى له من الكلام ، من علو أمر هذا النداء ، وعظم شأن هذا الثناء ، وكيف انتظم مع الكلام الأول ، وكيف اتصل بتلك المقدمة ، وكيف وصل بها ما بعدها من الأخبار عن الربوبية ، وما دل به عليها من قلب العصامية ، وجعلها دليلاً يدله عليه ومعجزة تهديه إليه .

انظر إلى الكلمات المفردة القائمة بالحسن

وانظر إلى الكلمات المفردة القائمة بأنفسها في الحسن، وفيما تتضمنه من المعاني الشريفة، ثم ما شفع به هذه الآية، وقرن به هذه الدلالة: من اليد البيضاء - عن نور البرهان - من غير سوء.

انظر إلى كل آية وكل كلمة

ثم انظر في آية آية، وكلمة كلمة، هل تجدها كما وصفنا من عجيب النظم، وبديع الرصف? فكل كلمة لو أفردت كانت في الجمال غاية، وفي الدلالة آية، فكيف إذا قارنتها أخواتها، وضامتها ذواتها، تجري في الحسن مجراها، وتأخذ في معناها.. ثم من قصة إلى قصة، ومن باب إلى باب، من غير خلل يقع في نظم الفصل إلى الفصل، وحتى يصور لك الفصل وصلاً، ببديع التأليف، وبليغ التنزيل.

إن كنت من أهل الصنعة

فاعمد إلى قصة فعبر عنها بأسلوب

وإن أردت أن تتبين ما قلناه فضل تبين، وتتحقق بما ادعيناه زيادة تحقق، فإن كنت من أهل الصنعة فاعمد إلى قصة من هذه القصص، وحديث من هذه الأحاديث، فعبر عنه بعبارة من جهتك، وأخبر عنه بألفاظ من عندك، حتى ترى فيما جئت به النقض الظاهر، وتتبين في نظم القرآن الدليل الباهر.

ولذلك أعاد قصة موسى في سور، وعلى طرق شتى، وفواصل مختلفة، مع اتفاق المعنى.

سترجع إلى عقلك وتستر ما عندك

فلعلك ترجع إلى عقلك، وتستر ما عندك، إن غلطت في أمرك، أو ذهبت في مذاهب وهمك، أوسطت على نفسك وجه ظنك.

متى تهيأ لبليغ أن يتصرف في قدر آية، في أشياء مختلفة، فيجعلها مؤتلفة، من غير أن يبين على كلامه أعباء الخروج والتنقل، أو يظهر على خطابه آثار التكلف والتعمل? وأحسب أنه يسلم من هذا - ومحال أن يسلم منه - حتى يظفر بمثل تلك الكلمات الإفراد، والألفاظ الأعلام، حتى يجمع بينها، فيجلو فيها فقرة من كلامه، وقطعة من قوله? ولو اتفق له في أحرف معدودة، وأسطر قليلة، فمتى يتفق له في قدر ما نقول إنه من القرآن معجز? هيهات هيهات!

لا يمكن أن يتهيأ لبشر أن يقول ما قال القرآن

إن الصبح يطمس النجوم وإن كانت زاهرة، والبحر يغمر الأنهار وإن كانت زاخرة. متى تهيأ للآدمي أن يقول في وصف كتاب سليمان عليه السلام، بعد ذكر العنوان والتسمية، هذه الكلمة الشريفة العالية: "أَلاَّ تَعْلُواْ عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ"، والخلوص من ذلك إلى ما صارت إليه من التدبير، واشتعلت به من المشورة، ومن تعظيمها أمر المستشار، ومن تعظيمهم أمرها، وطاعتها بتلك الألفاظ البديعة، والكلمات العجيبة البليغة، ثم كلامها بعد ذلك، لتعلم تمكن قولها: "يَا أَيُّهَا الْملأُ أََفْتُونِي في أَمْرِي مَا كُنتُ قَاطِعةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ"، وذكر قولهم: "قَالُوا نَحْنُ أُوْلُواْ قُوَّةٍ وَأُوْلُواْ بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ".

لا تجد في صفتهم أنفسهم أبدع مما وصفهم به، وقوله: "الأَمْرُ إِلَيْكِ"، وتعلم براعته بنفسه وعجيب معناه، وموضع اتفاقه في هذا الكلام، وتمكن الفاصلة، وملاءمته لما قبله، وذلك قوله: "فانظري ماذا تأمُرِينَ".

انظر إلى الاختصار مع البيان والإيجاز

ثم إلى هذا الاختصار، وإلى البيان مع الإيجاز، فإن الكلام قد يفسده الاختصار، ويعميه التخفيف منه والإيجاز، وهذا مما يزيده الاختصار بسطاً، لتمكنه ووقوعه موقعه، ويتضمن الإيجاز منه تصرفاً يتجاوز محله وموضعه.

وكما جئت إلى كلام مبسوط يضيق عن الإفهام، ووقعت على حديث طويل يقصر عما يراد به من التمام، ثم لو وقع على الإفهام.

فما يجب فيه من شروط الأحكام، أو بمعاني القصة وما تقتضي من الإعظام، ثم لو ظفرت بذلك كله رأته ناقصاً في وجه الحكمة، أو مدخولاً في باب السياسة، أو مصفوفاً في طريق السيادة، أو مشترك العبارات إن كان مستوجد المعنى، أو جيد البلاغة مستجلب المعنى، أو مستجلب البلاغة جيد المعنى، أو مستنكر اللفظ وحشي العبارة، أو مستبهم الجانب مستكره الوضع.

إنك تجد فيما تلونا عليك ما إذا بسط أفاد

وإذا اختصر كمل

وأنت لا تجد في جميع ما تلونا عليك إلا ما إذا بسط أفاد، وإذا اختصر كمل في بابه وجاد، وإذا سرح الحكيم في جوانبه طرف خاطره، وبعث العليم في أطرافه عيون مباحثه، لم يقع إلا على محاسن تتوالى، وبدائع تترى.

 

فكر في قوله تعالى: "إن الملوك إذا دخلوا...".

ثم فكر بعد ذلك في آية آية، أو كلمة كلمة في قوله: "إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُواْ قَرْيَةٌ أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُواْ أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أّذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ"، هذه الكلمات الثلاث: كل واحدة منها كالنجم في علوه ونوره، وكالياقوت يتلألأ بين شذوره... ثم تأمل تمكن الفاصلة - وهي الكلمة الثالثة - وحسن موقعها، وعجيب حكمها، وبارع معناها.

وإن شرحت لك ما في كل آية طال عليك الأمر، ولكني قد بينت بما فسرت، وقررت بما فصلت، الوجه الذي سلكت، والنحو الذي قصدت، والغرض الذي إليه رميت، والسمت الذي إليه دعوت.

تعادل نظم القرآن في مواقع القرآن

الآيات القصيرة والطويلة

ثم فكر بعد ذلك في شيء أدلك عليه، وهو تعادل هذا النظم في الإعجاز في مواقع الآيات القصيرة والطويلة والمتوسطة، فأجل الرأي في سورة سورة، وآية آية، وفاصلة فاصلة، وتدبر الخواتم والفواتح والبوادىء والمقاطع، ومواضع الفصل والوصل، ومواضع التنقل والتحول. ثم اقضِ ما أنت قاضٍ وإن طال عليك تأمل الجميع فاقتصر على سورة واحدة أو على بعض سور.

تأمل في قوله تعالى "إن فرعون علا في الأرض"

ما رأيك في قوله: "إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ، وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيعَاً، يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُم، يُذَبِّحُ أَبناءَهُم، ويَسْتَحْييِ نِسَاءَهُم، إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ" هذه تشتمل على ست كلمات، سناؤهاه وضياؤهها على ما ترى، وسلاستها وماؤها على ما تشاهد، ورونقها على ما تعاين، وفصاحتها على ما تعرف.

وهي تشتمل على جملة وتفصيل، وتفسير ذكر العلو في الأرض باستضعاف الخلق بذبح الولدان وسبي النساء، وإذا تحكم في هذين الأمرين فما ظنك بما دونهما، لأنها النفوس لا تطمئن على هذا الظلم، والقلوب لا تقر على هذا الجور.

ثم ذكر الفاصلة التي أوغلت في التأكيد، وكفت في التظليم، وردت آخر الكلام على أوله، وعطفت عجزه على صدره.

ثم ذكر وعده تخليصهم بقوله: "وَنُرِيدُ أَن نَّمُنْ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُواْ فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئمَّةً وَنَجْعَلَهُمْ الْوَارِثِينَ". وهذا من التأليف بين المؤتلف، والجمع بين المستأنس.

تأمل قوله تعالى "وابتغِ فيما آتاك الله"

كما أن قوله: "وَاْبتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ. وَلاَ تَنْسَ نَصيبَك مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ، وَلاّ تَبْغِ الفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحبُّ الْمُفسِدِينَ"، وهي خمس كلمات، متباعدة في المواقع، نائية المطارح، قد جعلها النظم البديع أشد تألفاً من الشيء المؤتلف في الأصل، وأحسن توافقاً من المتطابق في أول الوضع.

تأمل قوله تعالى "وربك يخلق ما يشاء ويختار"

ومثل هذه الآية قوله: "وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ، وَيَختَارُ، مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَة سُبْحَانَ اللّهِ وَتَعَالى عَمَا يُشْرِكُونَ".

ومثلها: :وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَها فَتِلْكَ مَسَاكِنُهمُ لَم تُسْكَن مِن بَعْدِهم إِلاَ قَليلاُ وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثينَ".

ومن المؤتلف قوله: "فَخَسْفنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ، فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِن دُونِ اللّهِ، وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنتَصِرِينَ"، وهذه ثلاث كلمات كل كلمة منها أعز من الكبريت الأحمر.

ومن الباب الآخر قوله تعالى: "وَلاَ تَدْعُ مَعَ اللّهِ إِلهاً آخَرَ، لاَ إِلهَ إِلاَّ هُوَ، كُلُّ شَيءٍ هالك إِلاَّ وَجْهَهُ، لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرجَعُونَ".

كل سورة من هذه السور، تتضمن من القصص ما لو تكلفت العبارة عنها بأضعاف كلماتها لم تستوف ما استوفته، ثم تجد فيما تنظم ثقل النظم ونفور الطبع، وشراد الكلام، وتهافت القول، وتمنع جانبه، وقصورك في الإيضاح عن واجبه، ثم لا تقدر على أن تنتقل من قصة إلى قصة وفصل إلى فصل، حتى تتبين عليك مواضع الوصل، ويستصعب عليك أماكن الفصل، ثم لا يمكنك أن تصل بالقصص مواعظ زاجرة، وأمثالاً سائرة، وحكماً جليلة، وأدلة على التوحيد بينة، وكلمات في التنزيه والتحميد شريفة.

إذا أجاد شاعر في وصف واقعة لم يبلغ جودة القرآن

وإن أردت أن تتحقق ما وصفت لك، فتأمل شعر من شئت من الشعراء المفلقين، هل تجد كلامه في المديح والغزل والفخر والهجو يجري مجرى كلامه في ذكر القصص? إنك لتراه إذا جاء إلى وصف واقعة، أو نقل خبر، عاميَّ الكلام، سوقي الخطاب، مسترسلاً في أمره، متساهلاً في كلامه، عادلاً عن المألوف من طبعه، وناكباً عن المعهود من سجيته، فإن اتفق له في قصة كلام جيد، كان قدر ثنتين أو ثلاثة، وكان ما زاد عليها حشواً، وما تجاوزها لغواً... ولا أقلول إنها تخرج من عادته عفواً، لأنه يقصر عن العفو، ويقف دون العرف، ويتعرض للركاكة.

الإعجاز في قصة موسى

فإن لم تقنع بما قلت لك من الآيات، فتأمل غير ذلك من السور، هل تجد الجميع على ما وصفت لك? لو لم تكن إلا سورة واحدة لكفت في الإعجاز، فكيف بالقرآن العظيم? ولو لم يكن إلا حديث من سورة لكفى وأقنع وشفى.

ولو عرفت قدر قصة موسى وحدها من سورة الشعراء، لما طلبت بينة سواها، بل قصة من قصصه، وهي قوله: "وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُم مُتَّبَعُونَ" إلى قوله: "فَأَخْرَجْنَاهُم مِن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ، وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ. كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَأَتْبَعُوهُم مُشْرِقِينَ" حتى قال: "فَأَوْحَيْنَا إِلى مُوسى أَنِ اضْرِبْ بِعصَاكَ الْبَحْرَ، فَانْفَلَقَ، فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ كالطَّوْدِ العَظِيمِ".

الإعجاز في قصة إبراهيم

ثم قصة إبراهيم عليه السلام.. ثم لو تكن إلا الآيات التي انتهى إليها القول في ذكر القرآن، وهي قوله: "وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ، نَزَلَ بِهِ الْرُّوحُ الأَمِينُ، عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ، بِلِسَانٍ عَرَبيٍ مُبِينٍ".

وهذه كلمات مفردة بفواصلها، منها ما تتضمن فاتحة وفاصلة، ومنها ما هي فاتحة وواسطة وفاصلة، ومنها كلمة بفاصلتها تامة؛ دل على أنه نزل على قلبه ليكون نذيراً، وبيّن أنه آية لكونه نبياً، ثم وصل ذلك كيفية النذارة فقال: "وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ، وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنينَ".

فتأمل آية أية لتعرف الإعجاز، وتتبين التصرف البديع، والتنقل في الفصول إلى آخر السورة، ثم راع المقطع العجيب، وهو قوله: "وَسَيَعْلَمَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ أَيْ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ"، هل يحسن أن تأتي بمثل هذا الوعيد، وأن تنظم مثل هذا النظم، وأن تجد مثل هذه النظائر السابقة، وتصادف مثل هذه الكلمات المتقدمة? ولولا كراهة الإملال، لجئت إلى كل فصل، فاستقريت على الترتيب كلماته، وبينت لك ما في كل واحدة منها من البراءة، ومن عجيب البلاغة، ولعلك تستدل بما قلنا على ما بعده، وتستضيء بنوره، وتهتدي بهداه، ونحن نذكر آيات أخر، لتزداد استبصاراً، وتتقدم تيقناً.

?كلام الله المؤتلف

تأمل من الكلام المؤتلف قوله: "حم تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ، غَافِرِ الذَّنبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ، شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الَّطْولِ، لاَ إِلهَ إِلاَّ هُوَ إِليْهِ الْمَصِيرُ".

أنت قد تدربت الآن بحفظ أسماء الله تعالى وصفاته، فانظر متى وجدت في كلام البشر وخطبهم مثل هذا النظم في هذا القدر، وما يجمع ما تجمع هذه الآية: من شريف المعاني، وحسن الفاتحة والخاتمة، واتل ما بعدها من الآي، واعرف وجه الخلوص من شيء إلى شيء: من احتجاج إلى وعيد، ومن أعذار إلى إنذار، ومن فنون من الأمر شتى مختلفة تأتلف بشريفة النظم، ومتباعدة تتقارب بعلي الضم.

ثم جاء إلى قوله: "كَذَّبَتْ قَبْلَهُم قَوْمُ نُوحٍ وَالأَحْزَابُ مِن بَعْدِهِم، وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهمْ لِيَأْخُذُوهُ، وَجَادَلُواْ بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُواْ بِهِ الْحَقَّ، فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ، وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرواْ أّنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ" الآية الأولى أربعة فصول، والثانية فصلان.

وجوه الوقوف على شريف الكلام أن تتأمل موقع قوله: "وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ".

وهل تقع في الحسن موقع قوله ليأخذوه كلمة? وهل تقوم مقامه في الجزالة لفظة? وهل يسد مسده في الأصالة نكتة?

لو وضع موضع ذلك: ليقتلوه أو ليرجموه أو لينفوه أو ليطردوه أو ليهلكوه أو ليذلوه، ونحو هذا، ما كان ذلك بعيداً ولا بارعاً، ولا عجيباً، ولا بالغاً.

فانقد موضع هذه الكلمة، وتعلم بها ما تذهب إليه من نخب الكلام وجميل الألفاظ، والاهتداء للمعاني. فإن كنت تقدر أن شيئاً من هذه الكلمات التي عددنا عليك أو غيرها لا تقف بك على غرضنا من هذا الكتاب، فلا سبيل لك إلى الوقوف على تصاريف الخطاب، فافزع إلى التقليد، واكف نفسك مؤونة التفكير، وإن فطنت فانظر إلى ما قاله من رد عجز الخطاب إلى صدره بقوله: "فَاَخَذْتُهُم فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ" ثم ذكر عقيبها العذاب في الآخرة، وأتلاها تلو العذاب في الدنيا، على الأحكام الذي رأيت، ثم ذكر المؤمنين بالقرآن، بعد ذكر المكذبين بالآيات والرسل. فقال: "الَّذِينَ يَحْمِلُوَنَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونُ به". إلى ذكر ثلاث آيات.

وهذا كلام مفصول تعلم عجيب اتصاله بما سبق ومضى، وانتسابه إلى ما تقدم وتقضّى، وعظم موضعه في معناه، ورفيع ما يتضمن من: تحميدهم وتسبيحهم وحكاية كيفية دعاء الملائكة، بقوله: "رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيءٍ رَّحْمَةً وَعِلْماً". هل تعرف شرف هذه الكلمة لفظاً ومعنى، ولطيف هذه الحكاية، وتلاؤم هذا الكلام، وتشاكل هذا النظام? وكيف يهتدي إلى وضع هذه المعاني بشريّ? وإلى تركيب ما يلائمها من الألفاظ إنسي.

ثم ذكر ثلاث آيات في أمر الكافرين على ما ترى، ثم نبه على أمر القرآن وأنه من آياته، بقوله: "هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِّنَ السَّماءِ رِزْقَاً وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلاَّ مَن يُنِيبُ"، وإنما ذكر هذين الأمرين اللذين يختص بالقدرة عليما لتناسبهما في أنهما من تنزيله من السماء، ولأن الرزاق الذي لو لم يرزق لم يمكن بقاء النفس تجب طاعته والنظر في آياته.

ثم قال: "فَادْعُواْ اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدّينَ وَلَو كَرِهَ الْكَافِرُونَ، رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ، لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَلاقِ، يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ، لاَ يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنهُم شَيءٌ، لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَومَ? لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ".

قف على هذه الدلالة، وفكِّر فيها، وراجع نفسك في مراعاة معاني هذه الصفات العالية، والكلمات السامية، والحكم البالغة، والمعاني الشريفة، تعلم ورودها عن الإلهية ودلالتها على الربوبية، وتتحقق أن الخطب المنقولة عنهم، والأخبار المأثورة في كلماتهم الفصيحة، من الكلام الذي تعلق به الهمم البشرية، وما تحوم عليه الأفكار الآدمية، وتعرف مباينتها لهذا الضرب من القول، أي خاطر يتشوف إلى أن يقول: "يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ الْتَّلاَقِ يَوْمَ هُم باَرِزُونَ".

وأي لفظ يدرك هذا المضمار? وأي حكيم يهتدي إلى ما لهذا من الغور? وأي فصيح يهتدي إلى هذا النظم? ثم استقرئ الآية إلى آخرها واعتبر كلماتها، وراع بعدها قوله: "الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لاَ ظُلْمَ الْيَومَ، إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ"؛ من يقدر على تأليف هذه الكلمات الثلاث على قربها، وعلى خفتها في النظم، وموقعها من القلب? ثم تأمل قوله: "وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الآزِفِةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِر كَاظِمينَ، مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حًمِيمٍ وَلاَ شَفِيعٍ يُطَاعُ، يَعْلَمُ خَائِنَةً الأَعْيُنٍ وَمَا تُخْفِي الصُدُورُ، واللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ، وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لاَ يَقْضُونَ بِشِيءٍ، إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْسَمِيعُ الْبَصِيرُ".

كل كلمة من ذلك على ما قد وصفتها، من أنه إذا رآها الإنسان في رسالة كانت عينها، أو في خطبة كانت وجهها، أو قصيدة كانت غرة غرتها، وبيت قصيدتها، كالياقوتة التي تكون فريدة العقد، وعين القلادة، ودرة الشذر، إذا وقع بين كلام وشحه، وإذا ضمن في نظام زينه، وإذا اعترض في خطاب تميز عنه، وبان بحسنه منه.

بلاغة القرآن ليس في سورة دون سورة

ولست أقول هذا لك في آية دون آية، وسورة دون سورة، وفصل دون فصل، وقصة دون قصة، ومعنى دون معنى، لأني قد شرحت لك أن الكلام في حكاية القصص والأخبار، وفي الشرائع والأحكام، وفي الديانة والتوحيد. وفي الحجج والتثبيت، هو خلاف الكلام فيما عدا هذه الأمور..

نظم القرآن لا يتفاوت في شيء

ألا ترى أن الشاعر المفلق إذا جاء إلى الزهد قصر، والأديب إذا تكلم في بيان الأحكام، وذكر الحلال والحرام، لم يكن كلامه على حسب كلامه في غيره.. ونظم القرآن لا يتفاوت في شيء، ولا يتباين في أمر، ولا يختل في حال، بل له المثل الأعلى، والفضل الأسنى. وفيما شرحناه لك كغاية، وفيما بيناه بلاغ.

إعجاز القرآن في الأحكاميات

ونذكر في الأحكاميات وغيرها آيات أخرى، منها قوله: "يَسْئَلُونَكَ مّاذَا أُحِلَّ لَهُمْ? قُلْ: أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيّبَاتُ، وَمَا عَلَّمْتُم مِنَ الْجوَارِحِ مُكَلِّبِينَ، تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُواْ مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُم، وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيهِ، وَاتَّقُوا اللَّه إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ".

أنت تجد في هذه الآية، من الحكمة، والتصرف العجيب، والنظم البارع، ما يدلك إن شئت على الإعجاز، مع هذا الإختيار والإيجاز، فكيف إذا بلغ ذلك آيات وكانت سورة? ونحو هذه الآية قوله: "الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُميَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبَاً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ، يأمُرُهُم بِالمَعْرِوفِ، وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ، وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ، وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرهُمْ وَالأَغلاَلَ التَّي كَانَتْ عَلَيْهمْ، فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبعُواْ النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أوَلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ".

?إعجاز القرآن في آيات التوحيد وإثبات النبوة

وكالآية التي بعدها في التوحيد وإثبات النبوة، وكالآيات الثلاث في المواريث. أي بارع يقدر على جمع أحكام الفرائض في قدرها من الكلام? ثم كيف يقدر على ما فيها من بديع النظم? وإن جئت إلى آيات الاحتجاج كقوله تعالى: "لّوْ كَانَ فِيهما آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا، فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ. لاَ يُسْئَلُ عَمَّا يُفعلُ وَهُم يُسْأَلُونَ".

وكالآيات في التوحيد كقوله: "هُوَ الحَيُّ، لا إله إلا هُوَ فادعُوه مُخْلِصِينَ لَهُ الدينَ، الحمدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ". وكقوله: "تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الفُرقَانَ عَلَى عَبْدِهِ، لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً، الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَمَواتِ وَالأَرْضِ، وَلَمَ يَّتخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ شَريكٌ فِي المُلكِ، وَخَلَقَ كُلَّ شَيءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً".

وكقوله: "تَبَارَكَ الَّذِي بيدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيءٍ قَدِيرٌ"، إلى آخرها.

وكقوله: "وَالصَّافَّاتِ صَفَّا، فَالزَّاجِرَاتِ زَجْراً، فَالتَّالِيَاتِ ذِكْراً، إِنَّ إِلهَكُم لَوَاحِدٌ، رَّبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ، إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ، وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَّارِدٍ، لاَّ يَسَّمَّعُونَ إِلَى المَلأ الأَعْلَى؛ وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ دُحُوراً، وَلَهُم عَذَابٌ وَاصِبٌ، إِلاَّ مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ".

هذه من الآيات التي قال فيها تعالى ذكره: "اللّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُّتَشَابِهاً مَّثَانِي. تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَونَ رَبَّهُم، ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُم وَقُلُوبُهُم إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ، ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدي بِهِ مَنْ يَشَاءُ، وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لُهُ مِنْ هَادٍ". وانظر بعين عقلك، وراجع جلية بصيرتك، إذا تفكرت في كلمة كلمة مما نقلناه إليك، وعرضناه عليك، ثم فيما ينتظم من الكلمات، ثم إلى أن يتكامل فصلاً وقصة، أو يتم حديثاً وسورة.

فكر في جميع القرآن على هذا الترتيب

لا بل فكر في جميع القرآن على هذا الترتيب، وتدبره على نحو هذا التنزيل، فلم ندع ما ادعيناه لبعضه، ولم نصف ما وصفناه إلا في كله، وإن كانت الدلالة في البعض أبين وأظهر، والآية أكشف وأبهر.

وإذا تأملت على ما هديناك إليه، ووقفناك عليه، فانظر: هل ترى وقع هذا النور في قلبك، واشتماله على لبك ، وسريانه في حسك، ونفوذه في عروقك، وامتلاءك به إيقاناً، وإحاطة واهتداءك به إيماناً وبصيرة? أم هل تجد الرعب يأخذ منك مأخذه من وجه، والهزة تعمل في جوانبك من لون، والأريحية تستولي عليك من باب? وهل تجد الطرب يستفزك للطيف ما فطنت له، والسرور يحركك من عجيب ما وقفت عليه? وتجد في نفسك من المعرفة التي حدثت لك عزة، في أعطافك ارتياحاً وهزة، وترى لك في الفضل تقدماً وتبريزاً، وفي اليقين سبقاً وتحقيقاً، وترى مطارح الجهال تحت أقدام الغفلة، ومهاويهم في ظلال القلة والذلة، وأقدارهم بالعين التي يجب أن تلحظ بها مراتبهم، بحيث يجب أن ترتبها.

لم يأمر الله بالتعوذ إلا لأمر عظيم

هذا كله في تأمل الكلام ونظامه، وعجيب معانيه وأحكامه، فإن جئت إلى ما انبسط في العالم من بركته وأنواره، وتمكن في الآفاق من يمنه وأضوائه، وثبت في القلوب من إكباره واعظامه، وتقرر في النفوس من حتم أمره ونهيه، ومضى في الدماء من مفروض حكمه.. وإلى أنه جعل عماد الصلاة التي هي تلو الإيمان في التأكيد، وثانية التوحيد في الوجوب.. وفرض حفظه، ووكل الصغار والكبار بتلاوته، وأمر عند افتتاحه بما أمر به لتعظيمه، من قوله: "فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ"، لم يؤمر بالتعوذ لافتتاح أمر كما أمر به لافتتاحه، فهل يدلك هذا على عظيم شأنه، وراجح ميزانه، وعالي مكانه? وجملة الأمر أن نقد الكلام شديد، وتمييزه صعب.

العلماء بالشعر والأدب قلائل

ومما كتب إليَّ الحسن بن عبد الله العسكري: أخبرني أبو بكر بن دريد قال: سمعت أبا حاتم يقول: سمعت الأصمعي يقول: فرسان الشعراء أقل من فرسان الحرب.. وقال: سمعت أبا عمرو بن العلاء، يقول: العلماء بالشعر أعزّ من الكبريت الأحمر.

العلماء يختلفون في الأحسن من الكلام

وإذا كان الكلام المتعارف، المتداول بين الناس، يشق تمييزه، ويصعب نقده، يذهب عن محاسنه الكثير، وينظرون إلى كثير من قبيحه بعين الحسن، وكثير من حسنه بعين القبح، ثم يختلفون في الأحسن منه اختلافاً كثيراً، وتتباين آراؤهم في تفضيل ما تفضل منه، فكيف لا يتحيرون فيما لا يخيط به علمهم، ولا يتأتى في مقدورهم، ولا يمثل بخواطرهم?

إن احتاروا في فصاحة القرآن

فقد احتار من هو أفصح منهم

وقد حير القوم الذين لم يكن أحد أفصح منهم، ولا أتم بلاغة، ولا أحسن براعة، حتى دهشوا حين ورد عليهم، وولهت عقولهم،ولم يكن عندهم فيه جواب، غير ضرب الأمثال، والتحرض عليه، والتوهم فيه، وتقسيمه أقساماً، وجعله عضين.

أحسن الحديث كتاب الله

وكيف لا يكون أحسن الكلام، وقد قال الله تعالى: "اللّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُّتَشَابِهاً مَّثَانِي. تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَونَ رَبَّهُم، ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُم وَقُلُوبُهُم إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ، ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدي بِهِ مَنْ يَشَاءُ، وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لُهُ مِنْ هَادٍ".

يكفي أن تعرف حسن القليل لتستدل على الكثير

استغنم فهم هذه الآية وكفاك، استفد علم هذه الكلمات وقد أغناك، فليس يوقف على حسن الكلام بطوله، ولا تعرف براعته بكثرة فصوله، إن القليل يدل على الكثير، والقريب قد يهجم بك على البعيد.. ثم إنه سبحانه وتعالى لما علم من عظم شأن هذه المعرفة، وكبر محلها وذهابها على أقوام، ذكر في آخر هذه الآية ما ذكر، وبيّن ما بيّن، فقال: "ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ" فلا يعلم ما وصفنا لك إلا بهداية من العزيز الحميد. وقال: "وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لُهُ مِنْ هَادٍ".

وقال: "يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً".

وقد بسطنا لك القول رجاء افهامك.. وهذا المنهاج الذي رأيته إن سلكته يأخذ بيدك، ويدلك على رشدك، ويغنيك عن ذكر براعته آية آية لك.

نقصد فما ذكرنا من آيات ذكر الأحسن

واعلم أنا لم نقصد فيما سطرناه من الآيات، وسميناه من السور والدلالات، ذكر الأحسن والأكشف والأظهر؛ لأنا نعتقد في كل سورة ذكرناها أو أضربنا عن ذكرنا اعتقاداً واحداً، في الدلالة على الإعجاز، والكفاية في التمنع والبرهان، ولكن لم يكن بد من ذكر بعض، فذكرنا في بعض القرآن أظهر، وفي بعض أدق وأغمض، والكلام في هذا الفصل يجيء بعد هذا.. فاحفظ عنا في الجملة ما كررنا، والسير بعد ذلك في التفصيل إليك. وحصل ما أعطيناك من العلامة، ثم النظر عليك.

الآيات تنقسم إلى قسمين

قد اعتمدنا على أن الآيات تنقسم إلى قسمين: أحدهما: ما يتم بنفسه، أو بنفسه وفاصلته، فينير في الكلام، إنارة النجم في الظلام.

والثاني: ما يشتمل على كلمتين أو كلمات، إذا تأملتها وجدت كل كلمة منها في نهاية البراعة، وغاية البلاغة، وإنما يبين ذلك بأن تتصور هذه الكلمة مضمنة بين أضعاف كلام كثير، أو خطاب طويل، فنراها ما بينها تدل على نفسها، وتعلو على ما قد قرن لعلو جنسها، فإذا ضمت إلى أخواتها، وجاءت في ذواتها، أرتك القلائد منظومة، كما كانت تريك عند تأمل الإفراد منها اليواقيت منثورة، والجواهر مبثوثة.

كراهية تضمين القرآن في الشعر

ولولا ما أكره من تضمين القرآن في الشعر، لأعطتك ألفاظاً وقعت مضمنة لتعلم كيف تلوح عليه، وكيف ترى بهجتها في أثنائه، وكيف تمتاز منه، حتى أنه لو تأمله من لم يقرأ القرآن، لتبين أنه أجنبي من الكلام الذي تضمنه، والباب الذي توسطه، وأنكر مكانه، واستكبر موضعه، ثم تناسبها في البلاغة والإبداع، وتماثلها في السلاسة والإغراب، ثم انفرادها بذلك الأسلوب، وتخصصها بذلك الترتيب، ثم سائر ما قدمنا ذكره مما نكره إعادته.

غير القرآن يتفاوت

وأنت ترى غيره من الكلام يضطرب في مجاريه، ويختل تصرفه في معانيه، ويتفاوت التفاوت الكثير في طرقه، ويضيق به النطاق في مذاهبه، ويرتبك في أطرافه وجوانبه، ويسلمه للتكلف الوحشي كثرة تصرفة، ويحيله على التصنع موارد تنقله وتخلصه... ونظم القرآن في مؤتلفه ومختلفه، وفي فصله ووصله، وافتتاحه واختتامه، وفي كل نهج يسلكه، وطريق يأخذ فيه، وباب يتهجم عليه، ووجه يؤمه على ما وصفه الله تعالى به لا يتفاوت كما قال: "وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْر اللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اختِلاَفَاً كَثِيراً" ولا يخرج عن تشابهه وتماثله، كما قال: "قُرْآنَاً عَرَبِياً غَيْرَ ذِي عِوَجٍ". وكما قال: "كِتَاباً مُتَشَابِهاً"، ولا يخرج عن إبانته، كما قال: "بِلسَانٍ عَرَبيًّ مُبِينٌ".

غير القرآن كثير التلون والتغير

وغيره من الكلام كثير التلون، دائم التغير، يقف بك على بديع مستحسن، ويعقبه قبيح مستهجن، ويطلع عليك بوجه الحسناء، ثم يعرض للهجر بخد القبيحة الشوهاء، ويأتيك باللفظة المستنكرة بين الكلمات التي هي كاللآلىْ الزهر وقد يأتيك باللفظة الحسنة بين الكلمات البهم، قد يقع إليك منه الكلام المثبج، والنظم المشوش، والحديث المشوه، وقد تجد منه ما لا يتناسب ولا يتشابه ولا يتآلف ولا يتماثل.

وقد قيل في وصف ما جرى هذا المجرى:

وشعر كبَعْرِ الكبش فَرّقَ بينه

 

لسانٌ دعيّ في القريض دخيلُ

وقال آخر:

وبعضُ قريضِ القوم أولادُ عَلْةٍ

 

يكد لسانَ الناطقِِ المتحـفِّـظِ

اعتراض ورد عليه

فإن قال قائل: فقد نجد في آيات القرآن ما يكون نظمه بخلاف ما وصفت ولا تتميز الكلمات بوجه البراعة، وإنما تكون البراعة عندك منه في مقدار يزيد على الكلمات المفردة، وحد يتجاوز حد الألفاظ المستبدة، وإن كان الأكثر على ما وصفته به.

قيل له: "نحن نعلم أن قوله: "حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاَتُكُمْ" إلى آخر الآية، ليس من القبيل الذي يمكن إظهار البراعة فيه، وإبانة الفصاحة، وذاك يجري عندنا مجرى ما يحتاج إلى ذكره من الأسماء والألقاب، فلا يمكن إظهار البلاغة فيه، فطلبها في نحو هذا ضرب من الجهالة، بل الذي يعتبر في نحو ذلك تنزيل الخطاب، وظهور الحكمة في الترتيب والمعنى، وذلك حاصل في هذه الآية إن تأملت.

ألا ترى أنه بدأ بذكر الأم لعظم حرمتها، وإدلائها بنفسها، ومكان بعضيتها، فهي أصل لكل من يدلي بنفسه منهن، لأنه ليس في ذوات الإنسان أقرب منها، ولما جاء إلى ذوات الأسباب ألحق لها حكم الأم من الرضاع، لأن اللحم ينشزه اللبن بما يغذوه، فيحصل بذلك أيضاً لها حكم البعضية، فنشر الحرمة بهذا المعنى، وألحقها بالوالدة.

وذكر الأخوات من الرضاعة فنبه بها على كل من يدلي بغيرها، وجعلها تلو الأم من الرضاع.

والكلام في إظهار حكم هذه الآية وفوائدها يطول، ولم نضع كتابنا لهذا، وسبيل هذا أن نذكره في كتاب معاني القرآن، إن سهل الله لنا إملاءه وجمعه.

فلم تنفك هذه الآية من الحكم التي تخلف حكمة الإعجاز في النظم والتأليف، والفائدة التي تنوب مناب العدول عن البراعة في وجه الترصيف. فقد علم السائل أنه لم يأت بشيء، ولم يهتدِ للأغراض في دلالات الكلام وفوائده ومتصرفاته وفنونه ومتوجهاته.

وقد يتفق في الشعر ذكي الأسامي فيحسن موقعه، كقول أبي دؤاد الأسدي:

إن يقتلوك فقد ثَلَلْتَ عُروسهم

 

بعتيبةً بنِ الحارثِ بن شهابِ

بأشدِّهم كلباً عـلـى أعـدائه

 

وأعزِّهم فقداً على الأصحابِ

وقد يتفق ذكر الأسامي فيفسد النظم ويقبح الوزن.

الآيات الأحكاميات لها طبيعة خاصة

والآيات الأحكاميات التي لابد فيها من أمر البلاغة يعتبر فيها من الألفاظ ما يعتبر في غيرها، وقد يمكن فيها، وكل موضوع أمكن ذلك فقد وجد في القرآن في بابه ما ليس عليه مزيد في البلاغة، وعجيب النظم.. ثم في جملة الآيات ما إن لم تراع البديع البليغ في الكلمات الإفراد، والألفاظ الآحاد، فقد تجد ذلك مع تركب الكلمتين والثلاث، ويطرد ذلك في الابتداء، والخروج، والفواصل، وما يقع بين الفاتحة والخاتمة من الواسطة، أو باجتماع ذلك أو في بعض ذلك، ما يخلف الإبداع في أفراد الكلمات. وإن كانت الجملة والمعظم على ما سبق الوصف فيه.

وإذا عرف ما يجري إليه الكلام، وينهي إليه الخطاب، ويقف عليه الأسلوب، ويختص به القبيل، بأن عند أهل الصنعة تميز بابه، وانفراد سبيله، ولم يشك البليغ في انتمائه إلى الجهة التي ينتمي إليها، ولم يرتب الأديب البارع في انتسابه إلى ما عرف من نهجه. وهذا كما يعرف طريقه مترسل في رسالته، فهو لا يخفى عليه بناء قاعدته وأساسه، فكأنه يرى أنه يعد عليه مجاري حركاته وأنفاسه. وكذلك في الشعر واختلاف ضروبه، يعرف المتحقق به طبع كل أحد، وسبيل كل شاعر.

في نظم القرآن أبواب لم تستوف

وفي نظم القرآن أبواب كثيرة لم نستوفها، وتقصِّيها يطول، وعجائبها لا تنقضي. فمنها الكلام والإشارات، وإذا بلغ الكلام من هذا القبيل مبلغاً، ربما زاد الإفهام به على الإيضاح، أو ساوى مواقع التفسير والشرح، مع استيفائه شروطه، كان النهاية في معناه، وذلك كقوله: "سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ"، فصول هذه الآية وكلماتها على ما شرحناه، من قبل البلاغة واللطف في التقدم، وفي تضمن هذا الأمر العظيم، والمقام الكريم.

ويتلو هذه قوله: "وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرَائِيلَ" هذا خروج لو كان في غير هذا الكلام لتصور في صورة المنقطع، وقد تمثل في هذا النظم لبراعته وعجيب أمره، و "موقعه" موقع مالا ينفك منه القول.

وقد يتبرأ الكلام المتصل بعضه من بعض ويظهر عليه التثبيج والتباين، للخلل الواقع في النظم، وقد تصور هذا الفصل للطفه وصلاً ولم بين عليه تميز الخروج.

حسن الانتقال من قصة موسى إلى قصة نوح

ثم انظر كيف أجرى هذا الخطاب إلى ذكر نوح، وكيف أثنى عليه? وكيف يليق صفته بالفاصلة ويتم النظم بها? مع خروجها مخرج البروز من الكلام الأول، إلى ذكره، وإجرائه إلى مدحه بشكره، وكونهم من ذريته يوجب عليهم أن يسيروا بسيرته، وأن يستنوا بسنته، في أن يشكروا كشكره، ولا يتخذوا من دون الله وكيلاً، وأن يعتقدوا تعظيم تخليصه إياهم من الطوفان لما حملهم عليه، ونجّاهم فيه، حين أهلك من عداهم به، وقد عرفهم أنه إنما يؤاخذهم بذنوبهم، وفسادهم، فيما سلط عليهم من قبلهم، وعاقبهم ثم عاد عليهم بالأفضال والإحسان، حتى يتذكروا، ويعرفوا قدر نعمة الله عليهم، وعلى نوح الذي ولدهم، وهم من ذريته، فلما عادوا إلى جهالتهم، وتمردوا في طغيانهم، عاد عليهم بالتعذيب.

ذكر الله الموعظة بعد القصة

ثم ذكر الله عز وجل في ثلاث آيات بعد ذلك، معنى هذه القصة التي كانت لهم، بكلمات قليلة في العدد، كثيرة الفوائد، لا يمكن شرحها إلا بالتفصيل الكثير، والكلام الطويل، ثم لم يخل تضاعيف الكلام مما ترى من الموعظة، على أعجب تدريج، وأبدع تاريخ، بقوله: "إِنْ أَحْسَنْتُم لإِنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا"، ولم ينقطع بذلك الكلام، وأنت ترى الكلام يتبدد مع اتصاله وينتشر مع انتظامه، فكيف بإلقاء ما ليس منه في ثنائه، وطرح ما بعده في أدراجه? إلى أن خرج إلى قوله: "عَسَى رَبُّكُمْ أَن يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا"، يعني إن عدتم إلى الطاعة عدنا إلى العفو.. ثم خرج خروجاً آخر إلى ذكر القرآن.

كلام القرآن الشريف لا يقاس بغيره

وعلى هذا فقس بحثك عن شرف الكلام، وما له من علو الشأن، لا يطلب مطلباً إلا انفتح، ولا يسلك قلباً إلا انشرح، ولا يذهب مذهباً إلا استنار وأضاء، ولا يضرب مضرباً إلا بلغ فيه السماء، لا تقع منه على فائدة فقدرت أنها أقصى فوائدها إلا قصرت، ولا تظفر بحكمة فظننت أنها زبدة حكمها إلا وقد أخللت.

من عارض القرآن بشعر امرئ القيس أضل من حمار

إن الذي عارض القرآن بشعر امرئ القيس لأضلُّ من حمار أهله، وأحمق من هبنقة، لو كان شعره كله كالأبيات المختارة التي قدمناها لأوجب البراءة من قوله:

وسِنَّ كُسَّنْيقٍ سناء وسُـنَّـمـاً

 

ذعَرْتُ بِمْدلاجِ الهجيرِ نَهوض

قال الأصمعي: لا أدري من السن ولا السنيق ولا السنم. وقال بعضهم: السنيق أكمة. وقال فيها:

له قُصْر باعير وسـاقـا نـعـامة

 

كفحل الهجان القيصري العضوض

وقوله:

عصـافـيرٌ وُذَّبـانٌ ودود

 

وأجرأ من مجلجلةِ الذُّباب

أمثلة من قبيح شعر امرئ القيس

وزاد في تقبيح ذلك وقوعه في أبيات فيها:

فقد طوّفتُ في الآفاق حتى

 

رضيتُ من الغنيمةِ بالإِيابِ

وكلُّ مكارمِ الأخلاق سارت

 

إليه همتي ونما اكتسابـي

وكقوله في قصيدة قالها في نهاية السقوط:

أزْمانَ فوها كلما نبـهـتـهـا

 

كالمسك فاح وظل في الفـدَّام

أفلا ترى أظعانهن بـواكـراً

 

كالنخل من شَوْكانَ حين صرام

وكأن شاربَها أصاب لسـانَـه

 

مُوم يخالط جسمَه بِـسـقَـام

وكقوله:

لم يفعلوا فعلَ آلِ حنظـلةَ

 

إِنَّهمُ جَيْر بئسما ائتمـروا

لا حِمْيَرِيّ وفى ولا عَدَسٌ

 

ولا استُ غَيْرٍ يحكُّها الثَّفَرُ

إن بني عوفٍ ابتَنَوا حسبـاً

 

ضَيَّعه الداخلون إذ غدروا

وكقوله:

أبلغ شهاباً بل فأبلغ عاصماً

 

هل قد أتاك الخُبْرُ مـالِ

أنا تركنا مِنكُمُ قتلى بخـو

 

عى، وسبايا كالسعـالـي

يمشين بين رحالنا معترفـا

 

تٍ ما بـجـوعٍ وهـزالِ

الأعشى وقع في ما فيه امرؤ القيس

ولم يقع مثل ذلك له وحده، فقد قال الأعشى :

فأَدخَلكَ اللَّهُ بردَ الجِـنـا

 

نِ جذلانَ في مَدْخَلٍ طيِّب

وقال أيضاً :

فرميت غفلةَ عينه عن شاتِه

 

فأصبتَ حبةَ قلبها وطِحالِها

وقال في فرسه :

ويأمرُ لليَحْمُوم كلَّ عشـيةٍ

 

بِقَتٍّ وتعليقٍ فقد كاد يَسْنَقُ

وقال :

وقد غَدَوْتُ إلى الحانُوت يتبعُني

 

شاوٍ مِشَلّ شَلُولٌ شُلْشُلٌ شَـوِلُ

وهذه الألفاظ في معنى واحد .

من سقطات زهير

وقد وقع لزهير نحوه كقوله :

فأقسمت جهداً بالمنازِل من مِنى

 

وما سفحت فيه المقادمُ والقَمْلُ

كيف يقال هذا في قصيدة يقول فيها :

وهل ينُبت الخَطِّي إلا وشيجه

 

وتغرسُ إلا في منابتها النخلُ

من سقطات الطرماح

وكقول الطِّرماح :

سوف تدنيك من لميسَ سبنتـا

 

ة امارتْ بالبول ماء الكراض

السبنتاة: الناقة الصلبة، والكراض: ماء الفحل.. أسالت ماء الفحل مع البول فلم تعقد عليه ولم تحمل فتضعف، والمائر: السائل.

لاتحامل على امرئ القيس

فإن قال قائل: أجدك تحاملت على امرئ القيس، ورأيت أن شعره يتفاوت بين اللبن والشراسة، وبين اللطف والشكاسة. وبين التوحش والاستئناس، والتقارب والتباعد، ورأيت الكلام الأعدل أفضل، والنظام المستوثق أكمل، وأنت تجد البحتري يسبق في هذا الميدان، ويفوت الغاية في هذا الشأن، وأنت ترى الكتاب يفضلون كلامه على كل كلام، ويقدمون رأيه في البلاغة على كل رأي.

وكذلك تجد لأبي نواس من بهجة اللفظ، ودقيق المعنى، ما يتحير في أهل اللفظ، ويقدمه الشطار والظراف على كل شاعر، ويرون لنظمه روعة لا يرون لنظم غير، وزبرجاً لا يتفق لسواه... فكيف يعرف فضل ما سواه عليه?

الشعر لا يجوز أن يوازن به القرآن

فالجواب أن الكلام في أن الشعر لا يجوز أن يوازن به القرآن قد تقدم، وإذ كنا قد بينا أن شعر امرئ القيس - وهو كبيرهم الذي يقرون بتقدمه، وشيخهم الذي يعترفون بفضله، وقائدهم الذي يأتمون به، وإمامهم الذي يرجعون إليه - كيف سبيله، وكيف طريق منزلته عن منزلة نظم القرآن، وأنه لا يخلط بشعره غبار ذلك النظم، وهو إذا لحظ ذلك كان كما قال:

فأصبحتُ من ليلى الغداة كناظـرٍ

 

مع الصبح في إعجازِ نجمٍ مُغَرِّبِ

وكما قال أيضاً:

راحت مُشَرِّقَةً ورُحْتُ مغرِباً

 

فمتى التقاءُ مُشَرِّقٍ ومُغَرِّبِ

وإذا كنا قد أبنا في القاعدة ما علمت، وفصلنا لك في شعره ما عرفت، لم نحتج إلى أن نتكلم على شعر شاعر، وكلام كل بليغ، والقليل يدل على الكثير... وقد بينا في الجملة مباينة أسلوب نظم القرآن جميع الأساليب، ومزيته عليها في النظم والترتيب، وتقدمه عليها في كل حكمة وبراعة. ثم تكلمنا على التفصيل على ما شهدت، ولا يبقى علينا بعد ذلك سؤال.

قد يختلفون على الشعراء ولكنهم يقدمون امرأ القيس

ثم نقول: أنت تعلم أن من يقول بتقدم البحتري في الصنعة، به من الشغل في تفضيله على ابن الرومي، أو تسوية ما بينهما، ما لا يطمع معه في تقديمه على امرئ القيس ومن في طبقته... وكذلك أبو نواس إنما يعدل شعره بشعر أشكاله، ويقابل كلامه بكلام أضرابه، من أهل عصره، وإنما يقع بينهم التباين اليسير، والتفاوت القليل.

لا يجوز الظن أن جنس الشعر معارض لنظم القرآن

فأما أن يظن ظان أو يتوهم متوهم أن جنس الشعر معارض لنظم القرآن: "فَكَأََنَّما خَرَّ مِن السَّمَاءِ فَتَخْطفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ"، وإنما هي خواطر، يغير بعضها على بعض، ويقتدي فيها بعض ببعض، والغرض الذي يرمي إليه، ويصح التوافي عليه في الجملة، فهو قبيل، متداول، وجنس متنازع، وشريعة مورودة، وطريقة مسلوكة.

روائع الشعراء فيها مآخذ

ألا ترى إلى ما روي عن الحسين بن الضحاك، قال: أنشدت أبا نواس قصيدتي التي فيها:

وشاطريِّ اللسـانِ مـخـتـلـقِ الـتـكـريه

 

زانَ الـمـجـونَ بــالـــنُـــسُـــكِ

كأنهنصب كأسهقمرٌيكرعُ في بعض أنجمِ الفلكِ

 

 

قال: فأنشدني أبو نواس بعد أيام قصيدته التي يقول فيها:

أعاذلُ أعتبتُ الإمـامَ وأعـتـبـا

 

وأعربتَ عمَّا في الضمير وأعرَبا

وقُلتُ لساقيها: أَجِزْها فلـم أكـنْ

 

ليأبى أمير المؤمنـين وأشَـربَـا

فجوَّزها عني عُقَاراً ترى لـهـا

 

إلى الشرف الأعلى شُعاعاً مُطَنَّبا

إذا عَبَّ فيها شاربُ القومِ خلـتَـهً

 

يُقَبِّلُ في داجٍ من الليلِ كَوكَـبـا

قال: فقلت له: يا أبا علي هذه مصالتة، فقال: أتظن أنه يروي له معنى وأنا حي? فتأمل هذا الأخذ، وهذا الوضع، وهذا الاتباع، أما الخليع فقد رأى الإبداع في المعنى، فأما العبارات فإنها ليست على ما ظنه، لأن قوله "يكرع" ليس بصحيح وفيه ثقل بين وتفاوت، وفي إحالة، لأن القمر لا يصح تصور أن يكرع في نجم.

وأما قول أبي نواس: "إذا عب فيها" فكلمة قد قصد فيها المتانة، وكان سبيله أن يختار سواها من ألفاظ الشراب، ولو فعل ذلك كان أملح.

وقوله: "شارب القوم" فيه ضرب من التكلف، الذي لا بد له منه، أو من مثله، لإقامة الوزن.

ثم قوله: "خلته يقبل في داج من الليل كوكبا" تشبيه بحالة واحدة من أحواله، وهي أن يشرب حيث لا ضوء هناك، وإنما يتناوله ليلاً، فليس بتشبيه مستوفى، على ما فيه من الوقوع والملاحة.

?سبق ابن الرومي الضحاك وأبا نواس لكنه أطال: وقد قال ابن الرومي ما هو أوقع منه وأملح وأبدع:

ومهفهفٍ تَمَّتْ محاسِـنًـهً

 

حتى تجاوز مُنية النفـسِ

تصبُو الكؤوس إلى مراشفِهِ

 

وتَجِنُّ في يده إلى الحبسِ

أبصرته وكأنَّ شـاربَـهـا

 

قَمرٌ يقبلُ عارضَ الشمسِ

ولا شك في أن تشبيه ابن الرومي أحسن وأعجب، إلا أنه تمكن من إيراده في بيتين، وهما - مع سبقهما إلى المعنى - أتيا به في بيت واحد.

?أشعار من سبق ذكرهم متقاربة متجانسة

وإنما أردت بهذا أن أعرفك أن هذه أمور متقاربة، يقع فيها التنافس والتعارض، والأطماع متعلقة بها، والهمم تسمو إليهما، وهي إلف طباعنا، وطوع مداركنا، ومجانس لكلامنا.. وإعجاب قوم بنحو هذا وما يجري مجراه، وإيثار أقوام لشعر البحتري على أبي تمام وعبد الصمد وابن الرومي، وتقديم قوم كل هؤلاء أو بعضهم عليه، وذهاب قوم عن المعرفة، ليس بأمر يضرُّ بنا، ولا سبب يعترض على أفهامنا.

?نفذ لامية البحتري

ونحن نعمد إلى بعض قصائد البحتري، فنتكلم عليها، كما تكلمنا على قصيدة امرئ القيس، ليزداد الناظر في كتابنا بصيرة، ويستخلص من سر المعرفة سريرة، ويعلم كيف تكون الموازنة، وكيف تقع المشابهة والمقاربة، ونجعل تلك القصيدة التي نذكرها أجود شعره.

?أجود قصيدة للبحتري: سمعت الصاحب إسماعيل بن عباد يقول: سمعت أبا الفضل ابن العميد يقول: سمعت أبا مسلم الرستمي يقول: سمعت البحتري يذكر أن أجود شعر قاله:

أهلاً بذلكم الخيال المقبل

قال: سمعت أبا الفضل بن العميد يقول: أجود شعره هو قوله في الشيب:

زجر له لو كان ينزجر

قال: وسئلت عن ذلك فقلت": البحتري أعرف بشعر نفسه من غيره. فنحن الآن نقول في هذه القصيدة ما يصلح في مثل هذا... قوله:

أهلاً بذلكم الخـيالِ الـمـقـبـلِ

 

فعل الذي نهواه أو لـم يفـعـلِ

برق سرى في بطنِ وجرةَ فاهتدت

 

بسناه أعناقُ الركابِ الـضُـلَّـلِ

?في البيت الأول تطويل وحشو

البيت الأول: في قوله: "ذلكم الخيال" ثقل روح وتطويل وحشو، وغيره أصلح له. وأخف منه قول الصَّنَوْبَرِي:

أهلاً بذاك الزَّورِ من زَوْرِ

 

شمس بدت في فلك الدورِ

وعذوبة الشعر تذهب بزيادة حرف أو نقصان حرف، فيصير إلى الكزازة، وتعود ملاحته بذلك ملوحة، وفصاحته عياً، وبراعته تكلفاً، وسلاسته تعسفاً، وملاسته تلوياً وتعقداً، فهذا فصل.. وفيه شيء آخر، وهو أن هذا الخطاب إنما يستقيم منها خوطب به الخيال حال أقباله، فأما أن يحكي الحال التي كانت وسلفت على هذه العيادة، ففيه عهدة، وفي تركيب الكلام عن هذا المعنى عقدة، وهو - لبراعته وحذقه في هذه الصنعة، يعلق هذه الكلام، ولا ينظر في عواقبه، لأن ملاحة قوله تغطي على عيون الناظرين فيه نحو هذه الأمور.. ثم قوله: "فعل الذي نهواه أو لم يفعل" ليست بكلمة رشيقة، ولا لفظة ظريفة، وإن كانت كسائر الكلام.

?البيت الثاني عظيم الموقع في البهجة لكن فيه خلل

فأما بيته الثاني: فهو عظيم الموقع في البهجة، وبديع المأخذ حسن الرواء، أنيق المنظر والمسمع، يملأ القلب والفهم، ويفرح الخاطر، وترى بشاشته في العروق، وكان البحتري يسمي نحو هذه الأبيات عروق الذهب، وفي نحوه ما يدل على براعته في الصناعة، وحذقه في البلاغة، ومع هذا كله فيه ما نشرحه من الخلل، مع الديباجة الحسنة، والرونق المليح.

وذلك أنه جعل الخيال كالبرق، لإشراقه في مسراه، كما يقال إنه يسري كنسيم الصبا فيطيب ما مر به، كذلك يضيء ما مر حوله، وينور ما مر به. وهذا غلو في الصنعة، إلا أن ذكره "بطن وجرة" حشو، وفي ذكره خلل، لأن النور القليل يؤثر في بطون الأرض وما اطمأن منها، بخلاف ما يؤثر في غيرها، فلم يكن من سبيله أن يربط ذلك ببطن وجرة.

وتحديده المكان على الحشو أحمد من تحديد امرئ القيس من ذكر سقط اللوى بين الدخول فحول فتوضح فالمقراة، لم يقنع بذكر حد حتى حده بأربعة حدود، كأنه يريد بيع المنزل، فيخشى - أن أخلَّ بحد - أن يكون بيعة فاسداً، أو شرطه باطلاً. فهذا باب..

ثم إنما يذكر الخيال بخفاء الأثر، ودقة المطلب، ولطف المسلك، وهذا الذي ذكر يضاد هذا الوجه، ويخالف ما يوضع عليه أصل الباب. ولا يجوز أن يقدر مقدر أن البحتري قطع الكلام الأول، وابتدأ بذكر برق لمع من ناحية حبيبه من جهة بطن وجرة، لأن هذا المقطع إن كان فعله كان خارجاً به عن النظم المحمود ولم يكن مبدعاً، ثم كان لا تكون فيه فائدة، لأن كل برق شعل وتكرر وقع الاهتداء به في الظلام، وكان لا يكون بما نظمه مفيداً ولا متقدماً، وهو على ما كان من مقصده، فهو ذو لفظ محمود، ومعنى مستحب غير مقصود، ويعلم بمثله أنه طلب العبارات، وتعليق القول بالإشارات، وهذا من شعر: الجنس الذي يحلو لفظه، وتقل فوائده، كقول القائل:

ولما قضينا من مِنىً كُـلَّ حـاجةٍ

 

ومَسَّحَ بالأركانِ من هُوَ ماسـحُ

وشَدَّتْ على حُدْبِ المهاري رحالُنا

 

ولا ينظُرُ الغادي الذي هو رائحُ

أخذنا بأطرافِ الأحاديثِ بـينـنـا

 

وسالت بأعناقِ المِطيِّ الأباطـحُ

هذه ألفاظ بعيدة المطالع والمقاطع، حلوة المجاني والمواقع، قليلة المعاني والفوائد...

وأما قول البحتري بعد ذلك:

من غادةٍ مُنعت وتمنَعُ نَيْلَهـا

 

فلو أنها بذلت لنا لم تـبـذلِ

كالبدر غير مُخبَّلٍ والغصنِ غ

 

ير مميلٍ والدعص غير مُهَيَّلِ

?في البيت الأول تطويل لا ضرورة له

فالبيت الأول: على ما تكلف فيه من المطابقة، وتجشم الصنعة، ألفاظه أوفر من معانيه، وكلماته أكثر من فوائده، وتعلم أن القصد وضع العبارات في مثله، ولو قال ممنوعة مانعة كان ينوب عن تطويله، وتكثيره الكلام وتهويله، ثم هو معنى متداول مكرر على كل إنسان.

?في البيت الثاني تشبيه متداول

وأما البيت الثاني، فأنت تعلم أن التشبيه بالبدر والغصن والدعص أمر منقول متداول، ولا فضيلة في التشبيه بنحو ذلك.

وإنما يبقى تشبيهه ثلاثة أشياء بثلاثة أشياء في البيت، وهذا أيضاً قريب، لأن المعنى مكرر.

ويبقى له بعد ذلك شيء آخر، وهو تعمله للترصيع في البيت كله، إلا أن هذه الاستثناءات فيها ضرب من التكلف، لأن التشبيه بالغصن كاف، فإذا زاد فقال: كالغصن غير معوج، كان ذلك من باب التكلف خللاً، وكان ذلك زيادة يستغني عنها، وكذلك قوله: "كالدعص غير مهيل"، لأنه إذا انهال خرج عن أن يكون مطلق التشبيه مصروفاً إليه، فلا يكون لتقييده معنى.

وأما قوله:

ما الحسنُ عندك يا سعاد بمُحْسِـنٍ

 

فيما أتاه ولا الجمال بِمُـجْـمِـلِ

عذل المشوق، وإن من سيما الهوى

 

في حيث تجهله لجـاج الـعُـذَّلِ

?في البيت الأول حشو وكلفة

قوله في البيت الأول: "عندك"، حشو، وليس بواقع ولا بديع، وفيه كلفة والمعنى الذي قصده أنت تعلم أنه متكرر على لسان الشعراء.

وفيه شيء آخر لأنه يذكر أن حسنها لم يحسن في تهييج وجده وتهييم قلبه، وضد هذا المعنى هو الذي يميل إليه أهل الهوى والحب.. وبيت كشاجم أسلم من هذا وأبعد من الخلل، وهو قوله:

بحياة حُسنك أَحْسني، وبحقِّ من

 

جَعَل الجمالَ عليك وقفاً أَجْمِلي

لجاج العذل لا يدل على هوى مجهول

وأما البيت الثاني فإن قوله "في حيث" حشا بقوله بقوله في كلاه، ووقع ذلك مستنكراً وحشياً، نافراً عن طبعه، جافياً في وضعه، فهو كرقعة من جلد في ديباج حسن، فهو يمحو حسنه، ويأتي على جماله.

ثم في المعنى شيء، لأن لجاج العذل لا يدل على هوى مجهول، ولو كان مجهولاً لم يهتدوا للعذل عليه، فعلم أن المقصد استجلاب العبارات دون المعاني.

ثم لو سلم من هذا الخلل لم يكن في البيت معنى بديع ولا شيء يفوت قول الشعراء في العذل، فإن لك جملهم الذلول، وقولهم المكرر.

وأما قوله:

ماذا عليك من انتـظـارٍ مـتَّـيمٍ

 

بل ما يضرُّك وقفة في مـنـزل

إن سبيل عيّ عن الجواب فلم يُطِق

 

رجعاً فكيف يكون إن لـم يُسْـأَل

البيت الأول منقطع عن تقدم

لست أنكر حسن البيتين، وظرفهما ورشاقتهما ولطفهما وبهجتهما، إلا أن البيت الأول منقطع عن الكلام المتقدم ضرباً من الانقطاع، لأنه لم يجر لمشافهة العاذل ذكر، وإنما جرى العذال على وجه لا يتصل هذا البيت به ولا يلائم.

ثم الذي ذكره من الإنتظار، وإن كان مليحاً في اللفظ، فهو في المعنى متكلف، لأن الواقف في الدار لا ينتظر أمراً، وإنما يقف تحسراً وتذللاً وتحيراً.

والشطر الأخير من البيت واقع، والأول مستجلب، وفيه تعليق على أمر لم يجر له ذكر لأن وضع البيت يقتضي تقدم عذل على الوقوف، ولم يحصل ذلك مذكوراً في شعره من قبل.

وقوف البيت الثاني على غيره

وأما البيت الثاني فإنه معلق بالأول لا يستقل إلا به، وهم يعيبون وقوف البيت على غيره، ويرون أن البيت التام هو المحمود والمصراع التام بنفسه - بحيث لا يقف على المصراع الآخر - أفضل وأتم وأحسن.

وقوله: "فكيف يكون إن لم يسأل" مليح جداً، ولا تستمر ملاحة ما قبله عليه، ولا يطرد فيه الماء اطراده فيه، وفيه شيء آخر، لأنه لا يصلح أن يكون السؤال سبباً لأن يعيا عن الجواب، وظاهر القول يقتضيه.

فأما قوله:

لا تكلفن لي الـدمـوع فـإن لـي

 

دمعاً ينمُّ علـيه إن لـم يفـضُـل

ولقد سكنتُ إلى الصدود من النَّوى

 

والشَرْيُ أريٌ عند طعم الحنظـل

وكذاك طَرْفَةُ حين أوجس ضـربةً

 

في الرأس هانَ عليه قصدُ الأَكْحَل

البيت الأول مخالف مذهب الشعراء

فالبيت الأول مخالف لما عليه مذهبهم، في طلب الإسعاد بالدموع، والإسعاف بالبكاء. ومخالف لأول كلامه، لأنه يفيد مخاطبة العذل وهذا يفيد مخاطبة الرفيق... وقد بينت لك أن القوم يسلكون حفظ الألفاظ وتصنيعها، دون ضبط المعاني وترتيبها، ولذلك قال الله عز وجل: "وَالْشُّعَرَاءَ يَتَّبِعُهُمُ الغاوُونَ؛ أَلمْ تَرَ أَنَّهُم في كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ، وَأَنَّهُمْ يَقُولُون مَا لاَ يَفْعَلُونَ"، فأخبر أنهم يتبعون القول حيث توجه بهم، واللفظ كيف أطاعهم، والمعاني كيف تتبع ألفاظهم، وذلك خلاف ما وضع عليه الإبانة عن المقاصد بالخطاب، ولذلك كان طلب الفصاحة فيه أسهل وأمكن، فصار بهذا أبلغ خطابهم...

ثم لو أن هذا البيت وما يتلوه من البيتين سلم من نحو هذا لم يكن في ذلك شيء يفوت شعر شاعر، أو كلام متكلم.

أحسن في الصنعة ولكن أثقل على اللسان

وأما قوله: "والشرى أرى"، فإنه وإن كان قد تصنع له من جهة الطباق، ومن جهة التجنيس المقارب، فهي كلمة ثقيلة على اللسان، وهم يذمون نحو هذا، كما عابوا على أبي تمام قوله:

كريمٌ متى أمـدحْـهُ والـورى

 

معي ومتى ما لمتُهُ لمتُهُ وحدي

ذكر لي الصاحب بن عباد أنه جارى أبا الفضل بن العميد في محاسن القصيدة، حتى انتهى إلى هذا البيت، فذكر له أن قوله "أمدحه" معيب، لثقله من جهة تدارك حروف الحلق، ثم رأيت بعد ذلك المتقدمين قد تكلموا في هذا النكتة، فعلمت أن ذلك شيء عند أهل الصنعة معروف... ثم أن قوله: "عند أكل الحنظل" ليس بحسن ولا واقع.

البيت الثالث أجنبي غريب

وأما البيت الثالث فهو أجنبي من كلامه غريب في طباعه، نافر من جملة شعره، وفيه كزازة وفجاجة وإن كان المعنى صالحاً.

فأما قوله:

وأغرّ في الزمن البهيم محـجّـل

 

قد رحتُ منه على أغرَّ مُحَجَّـل

كالهيكـل الـمـبـنـيِّ إلا أنَّـه

 

في الحسن جاء كصورةٍ في هيكل

البيت الأول ليس فيه خروج حسن

فالبيت الأول لم يتفق له فيه خروج حسن، بل هو مقطوع عما سلف من الكلام، وعامة خروجه نحو هذا، وهو غير بارع في هذا الباب، وهذا مذموم معيب منه. لأن من كان صناعته الشعر، وهو يأكل به، وتغافل عما يرفع إليه في كل قصيدة، واستهان بأحكامه وتجويده، مع تتبعه لأن يكون عامة ما يصر به أشعاره من النسيب عشرة أبيات، وتتبعه للصنعة الكثيرة وتركيب العبارات وتنقيح الألفاظ وتزويرها، كان ذلك أدخل في عيبه، وأدل على تقصيره أو قصوره، وأنه لا يقع له الخروج منه.

ذكر التحجيل في الممدوح قريب

وأما قوله: "وأغر في الزمن البهيم محجل" فإن ذكر التحجيل في الممدوح قريب، وليس بالجيد.

وقد يمكن أن يقال إنه إذا قرن بالأغر حسن، وجرى مجراه، وانخرط في سلكه، وأهوى إلى مضماره، ولم ينكر لمكانه من جواره، فهذا عذر، والعدول عنه أحسن وإنما أراد أن يرد العجز على الصدر، ويأتي بوجه التجنيس.

وفيه شيء، لأن ظاهر كلامه يوهم أنه قد صار ممتطى الأغر الأول، ورائحاً عليه، ولو سلم من ذلك لم يكن فيه ما يفوت حدود الشعراء، وأقاويل الناس.

ذكر الهيكل في البيت الثاني مكروه

فأما ذكر الهيكل في البيت الثاني. ورده عجز البيت عليه، وظنه أنه قد ظفر بهذه اللفظة، وعمل شيئاً حتى كررها، فهي كلمة فيها ثقل، ونحن نجدهم إذا أرادوا أن يصنعوا نحو هذا قالوا: ما هو إلا صورة، وما هو إلا تمثال، وما هو إلا دمية، وما هو إلا ظبية، ونحو ذلك، من الكلمات الخفيفة على القلب واللسان، وقد استدرك هو أيضاً على نفسه فذكر أنه كصورة في هيكل ولو اقتصر على ذكر الصورة وحذف الهيكل، كان أولى وأجمل.

ولو أن هذه الكلمة كررها أصحاب العزائم على الشياطين لراعوهم بها، وأفزعوهم بذكرها، وذلك من كلامهم وشبيه بصناعتهم.

وأما قوله:

وافي الضُّلوع يشدُّ عقد حزامه

 

يوم اللقاء على مُعِم مُخْـول

أخوالُه للُّرسْتَمَـينِ بـفـارس

 

وجدُودُه للتُّبَّعَيْنِ بـمـوكـل

لم يأت في البيت الأول ببديع

نبل المحزم مما يمدح به الخيل فهو لم يأت فيه ببديع.

وقوله: "يشد عقد حزامه" داخل في التكلف والتعسف، لا يقبل من مثله، وإن قبلناه من غيره، لأنه يتبع الألفاظ، وينقدها نقداً شديداً فهلاَّ قال: "يشد حزامه"، أو يأتي بحشو آخر سوى العقد، فقد عقد هذا البيت بذكر العقد.

ثم قوله: "يوم اللقاء" حشو آخر لا يحتاج إليه..

البيت الثاني فيها غلظ ونفار

وأما البيت الثاني فمعناه أصلح من ألفاظه، لأنها غير مجانسة لطباعه، وفيها غلظ ونفار.

وأما قوله:

يهوي كما تهوي العقابُ وقد رأت

 

صيداً، وينقضُّ انقضاض الأَجْدَل

متوجِسٌ برقيقـتـين كـأنـمـا

 

تُريان من ورق عليه مُـوَصَّـل

ما إن يُعاف قَذى ولـو أوردتـه

 

يوماً خلائق حَمْـدَوَيه الأحـول

البيت الأول سبقه إليه الناس

البيت الأول صالح، وقد قاله الناس ولم يسبق إليه ولم يقل ما لم يقولوه بل هو منقول، وفي سرعة عدو الفرس تشبيهات ليس هذا بأبدعها.

وقد يقولون: يفوت الطرف، ويسبق الريح، ويجاري الوهم، ويكر النظر. ولولا أن الإتيان على محاسن ما قالوه في ذلك يخرج الكلام عن غرض الكتاب لنقلت لك جملة مما ذهبوا إليه في هذا المعنى، فتتبع تعلم أنها لم يأت فيها بما يجل عن الوصف، أو يفوت منتهى الحد.

لم يعرف الفرس حقه من شدة السرعة

على أن الهوى يذكر عن الانقضاض خاصة، وليس للفرس هذه الصفة في الحقيقة، إلا أن يشبه حده في العدو بحالة انقضاض البازي والعقاب، وليست تلك الحالة بأسرع أحوال طيرانها.

تشبيه الأذنين بالورق

وأما البيت الثاني فقوله إن الأذنين كأنهما من ورق موصل، وإنما أراد بذلك حدتهما، وسرعة حركتهما، وإحساسهما بالصوت، كما يحس الورق بحفيف الريح، وظاهر التشبيه غير واقع، وإذا ضمن ما ذكرنا من المعنى كان المعنى حسناً، ولكن لا يدل عليه اللفظ، وإنما يجري مجرى المضمن، وليس هذا البيت برائق اللفظ، ولا مشاكل فيه لطبعه، غير قوله: "متوجس برقيقتين"، فإن هذا القدر هو حسن.

لم يوفق البحتري كأبي تمام

وأما البيت الثالث فقد ذكرنا فيما مضى من الكتاب أنه من باب الاستطراد، ونقلنا نظائر ذلك من قول أبي تمام وغيره، وقطعة أبي تمام في نهاية الحسن في هذا المعنى.

والذي وقع للبحتري في هذا البيت عندي ليس بجيد في لفظ ولا معنى، وهو بيت وحش جداً قد صار قذى في عين هذه القصيدة، بل وخزاً فيها، و وبالاً عليها، قد كدَّر صفاءها. وأذهب بهاءها وماءها، وطمس بظلمته سناها، وما وجه مدح الفرس بأنه لا يعاف قذى من المياه إذا وردها? كأنه أراد أن يسلك مسلك بشار في قوله:

ولا يشربُ الماء إلا بدم

وإذا كان لهذا الباب مجانباً، وعن هذا السمت بعيداً.

لو وصف الفرس بعزة الشرب كان أفضل

فهلا وصفها بعزة الشرب، كما وصفها المتنبي في قوله:

وَصُولُ إلى المستصعبات بخـيلةٍ

 

فلو كان قرنُ الشمس ماءً لأَوْرَدا

وهلا سلك فيه مسلك القائل:

وإني للماء الذي شابه القذَى

 

ذا كُثُرتْ وَرَّداه لعَـيُوفْ

ثم قوله: "ولو أوردته يوماً" حشو بارد، ثم قوله: "حمدويه الأحول" وحش جداً، فما أمقت هذا البيت وأبغضه. وما أثقله وأسخفه، وإنما غطى على عينه عيبه، وزين له إيراده طمعه في الاستطراد، وهلاَّ طمع فيه على وجه لا يغض من بهجة كلامه، ولا معنى ألفاظه، فقد كان يمكن ذلك ولا يتعذر.

فأما قوله:

ذَنَبٌ كما سُحب الرداء يذُبُّ عن

 

عُرْفٍ، وعرف كالقناع المُسْبَل

تتوهم الجوزاءُ في أرسـاغـه

 

والبدر فوق جبينه المتهـلـل

البيت الأول منقطع

فالبيت الأول: وحش الابتداء، منقطع عما سبق من الكلام، وقد ذكرنا أنه لا يهتدي لوصل الكلام ونظام بعضه إلى بعض، وإنما يتصنع لغير هذا الوجه، وكان يحتاج أن يقول ذنب كالرداء فقد حذف، و الوصل غير متسق ولا مليح، وكان من سبيله أن لا يخفى عليه ولا يذهب عن مثله.

قبح في التشبيه

ثم قوله: "كما سحب الرداء" قبيح في تحقيق التشبيه، وليس بواقع ولا مستقيم في العبارة، إلا على إضمار أنه ذهب يسحبه كما يسحب الرداء.

وقوله: "يذب عن عرف" ليس بحسن ولا صادق، والمحمود ما ذكره امرؤ القيس، وهو قوله:

فويق الأرض ليس بأعزل

تشبيه الغرة بالبدر لم ينفرد به

وأما قوله: "تتوهم الجوزاء في أرساغه"، فهو تشبيه مليح، ولكنه لم يسبق إليه، ولا انفرد به، ولو نسخت لك ما قاله الشعراء في تشبيه الغرة بالهلال والبدر والنجم، وغير ذلك من الأمور، وتشبيه الحجول، لتعجبت من بدائع قد وقعوا عليها، وأمور مليحة قد ذهبوا إليها، وليس ذلك موضع كلامنا، فتتبع ذلك في أشعارهم تعلم ما وصفت لك.

ما ذُكر من نقد كاف لبيان ما بقي من وصف الفرس

واعلم أنا تركنا بقية كلامه في وصف الفرس، لأنه ذكر عشرين بيتاً في ذلك، والذي ذكرناه في هذا المعنى يدل على ما بعده، ولا يعدو ما تركناه أن يكون متوسطاً إلى حد لا يفوت طريقة الشعراء.

لم يتقدم البحتري في وصف الخيل على غيره

ولو تتبعت أقاويل الشعراء في وصف الخيل، علمت أنه وإن جمع فأوعى، وحشر فنادى، ففيهم من سبقه في ميدانه، ومنهم من ساواه في شأوه، ومنهم من داناه، فالقبيل واحد، والنسيج متشاكل، ولولا كراهة التطويل لنقلت جملة من أشعارهم في ذلك، لتقف على ما قلت فتجاوزنا إلى الكلام على ما قاله في المدح في هذه القصيدة.

المدح في قصيدة البحتري

قال:

لمحمد بن علي الشرفُ الذي

 

لا يلحظ الجوزاءَ إلا من علِ

وسحابة لولا تتابع مُزْنِـهـا

 

فينا لراح المزنُ غيرَ مُبَخَّل

والجودُ يعذله علـيه حـاتـمٌ

 

سرفاً ولا جودٌ لمن لم يُعذل

انقطاع الأبيات عما قبلها يكثر في شعره

البيت الأول منقطع عما قبله، على ما وصفنا به شعره من قطعه المعاني، وفصله بينها، وقلة تأنيه لتجويد الخروج والوصل. وذلك نقصان في الصناعة، وتخلف في البراعة، وهذا إذا وقع في مواضع قليلة عذر فيها، وأما إذا كان بناء الغالب من كلامه على هذا فلا عذر له.

ما ذكره من معنى هو فيه مشترك مع غيره

وأما المعنى الذي ذكره فليس بشيء مما سبق إليه، وهو شيء مشترك فيه، وقد قالوا في نحوه: إن مجده سماء السماء، وقالوا في نحوه الكثير الذي يصعب نقل جميعه، وكما قال المتنبي:

وعزمة بعثْتـهـا هـمةٌ زُحَـلٌ

 

من تحتها بمكان التُرب من زُحَلِ

وحدثني إسماعيل بن عباد أنه رأى أبا الفضل بن العميد قام لرجل، ثم قال: لمن حضره أتدري من هذا? هو الذي قال في أبيه البحتري: "لمحمد بن القاسم الشرف الذي". فذلك يدل على استعظامه للميت بما مدح به من البيت.

تشبيه الجود بالسحاب حديث مكرر

والبيت الثاني في تشبيه جوده بالسحاب قريب، وهو حديث مكرر، ليس ينفك مديح شاعر منه، وكان من سبيله أن يبدع فيه زيادة إبداع، كما قد يقع لهم في نحوه هذا، ولكنه لم يتصنع له وأرسله إرسالاً.

في المصراع الثاني ضرب من الخلل

وقد وقع في المصراع الثاني ضرب من الخلل، وذلك أن المزن إنما يبخل إذا منع نيله، فذلك موجود في كل نيل ممنوح، وكلاهما محمود مع الإسعاف فإن أسعف أحدهما ومنع الآخر لم يمكن التشبيه، وإن كان إنما شبه غالب أحدهما بالآخر، وذكر قصور أحدهما عن صاحبه، حتى إنه قد يبخل في وقت والآخر لا يبخل بحال، فهذا جيد، وليس في حمل الألفاظ على الإشارة إلى هذا شيء.

البيت الثالث لفظه مضطرب

والبيت الثالث، وإن كان معناه مكرراً، فلفظه مضطرب بالتأخير والتقديم، يشبه ألفاظ المبتدئين.

وأما قوله:

فضلٌ وإفضال وما أخذ المـدى

 

بعد المدى كالفاضلِ المتَفَضِّـلِ

سارٍ إذا ادَّلج العفاةُ إلى النـدى

 

لا يصنع المعروف غيرَ معجَّل

سلك في البيت الأول طريقاً مذللة

فالبيت الأول منقطع عما قبله، وليس فيه شيء غير التجنيس الذي ليس ببديع، لتكرره على كل لسان، وقوله: "ما أخذ المدى" فإنه لفظ مليح، وهو كقول القائل:

قد أركبُ الآلة بعد الآلة

وروي: الحالة بعد الحالة، وكقول امرئ القيس:

سموت إليها بعدما نام أهلُـهـا

 

سُمُوَّ حَبابِ الماء حالاً على حالِ

ولكنها طريقة مذللة، فهو فيها تابع:

لم يجد في البيت الثاني في قوله لا يصنع المعروف

وأما البيت الثاني، فقريب في اللفظ والمعنى، وقوله: "لا يصنع المعروف" ليس بلفظ محمود.

وأما قوله:

عالٍ على نظر الحسود كأنما

 

جَذَبَتْهُ أفرادٌ النجومِ بأحبُـل

أو ما رأيت المجدَ ألقى رحله

 

في آلِ طلحةَ ثم لم يتحـوَّلِ

البيت الأول منكر جداً

فالبيت الأول منكر جداً في جر النجوم بالأرسان موضعه إلى العلو، والتكلف فيه واقع.

البيت الثاني أجنبي عنه

والبيت الثاني أجنبي عنه، بعيد منه، وافتتاحه رديء، وما وجه الاستفهام والتقرير والإستبانة والتوقيف? والبيتان أجنبيان من كلامه، غريبان في قصيدته، ولم يقع له في المدح في هذه القصيدة شيء جيد، ألا ترى أنه قال بعد ذلك:

نفسي فداؤك يا محمدُ من فتـى

 

يُوفي على ظُلم الخطوبِ فتنجَلي

إني أريدُ أبا سعـيد، والـعـدى

 

بيني وبين سحابه المـتـهـلـلِ

كأن هذا ليس من طبعه ولا من سبكه.

وقوله:

مضرُ الجزيرة كلُّها وربيعةُال

 

خابور توعدني وأَزْدُ الموصلِ

قد جدت بالطّرفِ الجوادِ فثنه

 

لأخيك من أدد أبيك بمنُصْـلِ

ذكر الأماكن لا يتأتى فيه التحسين

البيت الأول حسن المعنى، وإن كانت ألفاظه بذكر الأماكن لا يتأتى فيه التحسين، وهذا المعنى قد يمكن إيراده بأحسن من هذا اللفظ وأبدع منه وأرق منه، كقوله:

إذا غضبت عليك بنو تميمٍ

 

رأيت الناسَ كلَّهُمُ غِضابا

البيت الثاني قبيح اللفظ

والبيت الثاني قد تعذر عليه وصله بما سبق من الكلام على وجه يلطف، وهو قبيح اللفظ، حيث يقول فيه: "فثنه لأخيك من أدد أبيك"، ومن أخذه بهذا التعرض لهذا السجع، وذكر هذا النسب، حتى أفسد به شعره.

وصف السيف

وأما قوله بعد ذلك في وصف السيف يقول:

يتناولُ الروحَ البعيدَ منـالُـهـا

 

عفواً، ويفتح في القضاء المقفَل

بابانة في كل حتفٍ مـظـلـمٍ

 

وهداية في كلِّ نفسٍ مجـهـل

ماض، وإن لم يُمضِهِ يد فارسٍ

 

بطلٍ، ومصقول وإن لم يُصْقَلِ

 

 

 

 

 

 

 

البيت الأول ليس مضاهياً لديباجة شعره

ليس لفظ البيت الأول بمضاهٍ لديباجة شعره، ولا له بهجة نظمه، لظهور أثر التكلف عليه، وتبين ثقل فيه، وأما القضاء المقفل وفتحه فكلام غير محمود، ولا مرضي، واستعارة لو لم يستعرها كانت أولى به، وهلاَّ عيب عليه، كما عيب على أبي تمام قوله:

فضربت الشتاء في أخدعيه

 

ضربةً غادرته عُودا ركوبا

وقالوا: يستحق بهذه الإستعارة أن يصفع في أخدعيه، وقد اتبعه البحتري في استعارة الأخدع، ولوعاً باتباعه، فقال في الفتح:

وإني وقد بَلَّغتني شرف الـعـلا

 

وأعتقتَ من ذلِّ المطامع أخدعي

إن شيطانه، حيث زين له هذه الكلمة، تابعه حين حسن عنده هذه اللفظة، لخبيث مارد ورديء معاند، أراد أن يطلق أعنة الذم فيه، ويسرح جيوش العتب إليه، ولم يقنع بقفل القضاء، حتى جعل للحتف ظلمة تجلى بالسيف، وجعل السيف هادياً في النفس المجهل الذي لا يهتدي إليه، وليس في هذا مع تحسين اللفظ وتنميقه شيء، لأن السلاح وإن كان معيباً فإنه يهتدي إلى النفس، وكان يجب أن يبدع في هذا إبداع المتنبي في قوله:

كأن الهام في الهيجا عـيونٌ

 

وقد طُبِعت سيوفُك من رقاد

وقد صُغت الأسنة من هموم

 

فما يَخْطُرَّن إلا في الفـؤاد

فالإهتداء على هذا الوجه في التشبيه بديع حسن.

وفي البيت الأول حشو

وفي البيت الأول شيء آخر، وذلك أن قوله: "ويفتح في القضاء" في هذا الموضع حشو رديء، يلحق بصاحبه اللكنة، ويلزمه الهجنة.

ذكر الفارس في البيت الثالث حشو وتكلف

وأما البيت الثالث فإنه صلح هذه الأبيات، وإن كان ذكر الفارس حشواً وتكلفاً ولغواً لأن هذا لا يتغير بالفارس والراجل، على أنه ليس فيه بديع.

وأما قوله:

يغشى الوغى والتُّرسُ ليس بجُـنَّةٍ

 

من حده والدرع ليس بمعـقِـل

مُصغٍ إلى حكم الردى، فإذا مضى

 

لم يلتفت، وإذا قضى لـم يعـدِل

متـوقـدٌ يبـري بـأول ضـربة

 

ما أدركت ولو أنها فـي يذبـل

لم يبدع في البيتين الأولين وقد زيد عليه فيهما

البيتان الأولان من الجنس الذي يكثر كلامه عليه، وهي طريقة التي يجتنبها، وذلك من السبك الكتابي، والكلام المعتدل، إلا أنها لم يبدع فيها بشيء، وقد زيد عليه فهما، ومن قصد إلى أن يكمل عشرة أبيات في وصف السيف فليس من حكمه أن يأتي بأشياء منقولة، وأمور مذكورة، وسبيله أن يغرب ويبدع، كما أبدع المتنبي في قوله:

لركض بعدوهن بـنـجـد

 

فتصدى للغيث أهل الحجاز

هذا في باب صقاله وأضوائه وكثرة مائه وكقوله :

ريَّان، لو قذف الذي أَسْقَـيتَـهُ

 

لجرى من المهجات بحر مُزيدٍ

وقوله: "مصغٍ إلى حكم الردي" إن تأملته مقلوب، كان ينبغي أن يقول: يصغي الردى إلى حكمه، كما قال الآخر:

فالسيفُ يأمرُ والأقدارُ تنتظرُ

وقوله: "وإذا قضى لم يعدل" متكرر على ألسنتهم في الشعر خاصة في نفس هذا المعنى... والبيت الثالث سليم، وهو كالأولين في خلوه عن البديع...

فأما قوله:

فإذا أصابَ فكل شيء مقتَلٌ

 

وإذا أُصِيب فما له من مقتَلِ

وكأنما سُود النمال وحُمرِها

 

دبت بأيدٍ في قَراه وأرجـل

المعنى في البيت الأول متفاوت

البيت الأول يقصد به صنيعة اللفظ، وهو في المعنى متفاوت، لأن المضرب قد لا يكون مقتلاً، وقد يطلق الشعراء ذلك، ويرون أن هذا أبدع من قول المتنبي وأنه بضده:

يُقتل السيفُ في جسم القتيلِ به

 

وللسيوف كما للناس آجـالُ

وهذه طريقة لهم يمتدحون بها في قصف الرمح طعناً، وتقطيع السيف ضرباً.

وفي البيت تعسف

وفي قوله: "وإذا أصيب فما له من مقتل" تعسف، لأنه يريد بذلك أنها لا يتكسر، فالتعبير بما عبر به عن المعنى الذي ذكرناه، يتضمن التكلف وضرباً من المحال، وليس بالنادر، والذي عليه الجملة ما حكيناه عن غيره، ونحوه قال بعض أهل الزمان:

يقصف في الفارس السمهريّ

 

وصدر الحسام فريقاً فريقـا

معنى البيت الثاني مكرر على ألسنة الشعراء

والبيت الثاني أيضاً هو معنى مكرر على السنة الشعراء، وأما تصنيعه بسود النمال وحمرها فليس بشيء، ولعله أراد بالحمر الذر، والتفصيل بارد، والإعراب به منكر، وهو كما حكى عن بعضهم أنه قال: كان كذا حين كانت الثريا بحذاء رأسي على سواء، أو منحرفاً قدر شبر، أو نصف شبر، أو أصبع، وما يقارب ذلك: فقيل له: هذا من الورع الذي يبغضه الله، ويمقته الناس، ورب زيادة كانت نقصاناً، وصفة النمل بالسواد والحمرة في هذا من ذلك الجنس، وعليه خرج بقية البيت في قوله:

دبت بأيد في قراه وأرجل

وكان يكفي ذكر الأرجل عن ذكر الأيدي. ووصف الفرند بمدب النمل شيء لا يشذ عن أحد منهم.

وأما قوله:

وكأن شاهَرهُ إذا استضوى بهالزحفان يعصي بالسماك الأعزل

 

حملت حمائله القديمة بَقْلةً

 

من عـهــد عـــاد غـــضةً لـــم تـــذبـــل

في البيت الأول تكلف

البيت الأول منهما فيه ضرب من التكلف، وهو منقول من أشعارهم وألفاظهم، وإنما يقول: "قمر يشد على الرجال بكوكب"، فجعل ذلك الكوكب السماك ، واحتاج إلى أن يجعله أعزل للقافية، ولو لم يحتج إلى ذلك كان خيراً له، لأن هذه الصفة في هذا الوضع تفضه من الموضع، وموضع التكلف الذي ادعيناه الحشو الذي ذكره من قوله: "إذا استضوى به الزحفان، وكان يكفي أن يقول: كأن صاحبه يعصي بالسماك، وهذا وإن كان قد تعمل فيه للفظ فهو لغو على ما بيناه.

في البيت الثاني لغو وفيه تشبيه من تشبيهات العامة

وأما البيت الثاني ففيه لغو من جهة قوله: "حمائله قديمة"، ولا فضيلة له في ذلك، ثم تشبيه السيف بالبقلة من تشبيهات العامة، والكلام الرذل النذل، لأن العامة قد يتفق منها تشبيه واقع حسن.

ثم انظر إلى هذا المقطع الذي هو بالعي أشبه منه بالفصاحة، وإلى اللكنة أقرب منه إلى البراعة، وقد بينا أن مراعاة الفواتح والخواتم والمطالع والمقاطع والفصل والوصل بعد صحة الكلام ووجود الفصاحة فيه مما لابد منه، وإن الإخلال بذلك يخل بالنظم، ويذهب رونقه، ويحيل بهجته، ويأخذ ماءه وبهاءه.

أسباب الإطالة في تحليل الشعر

وقد أطلت عليك فيما نقلت وتكلفت ما سطرت، لأن هذا القبيل قبيل موضوع متعمل مصنوع، وأصل الباب في الشعر على أن ينظر إلى جملة القصة ثم يتعمل الألفاظ، ولا ينظر بعد ذلك إلى مواقعها، ولا يتأمل مطارحها... وقد يقصد تارة إلى تحقيق الأغراض، وتصوير المعاني التي في النفوس، ولكنه يلحق بأصل بابه، ويميل بك إلى موضعه، وبحسب الإهتمام بالصنعة يقع فيها التفاضل.

أحسن من وصف السيف

وإن أردت أن تعرف أوصاف الفرس، فقد ذكرت لك أن الشعراء قد تصرفوا في ذلك بما يقع إليك، إن كنت من أهل الصنعة، مما يطول عليَّ نقله وكذلك في السيف. وذكر لي بعض أهل الأدب أن أحسن قطعة في السيف قول أبي الهول الحميري:

حاز صَمْصَامةَ الزبيديِّ من بـي

 

ن جميع الأنام مُوسـى الأمـينُ

سيف عمرو وكان فيما سمعـنـا

 

خيرَ ما أطبقت عليه الجـفـون

أخضر اللون بـين بـرديه حـدُّ

 

من ذُعافٍ تميس فيه المـنـون

أوقدت فوقه الصـواعـق نـاراً

 

ثم ذابت له الذعـاف الـقُـيون

فإذا ما شَهَرتَـهُ بَـهَـرَ الـشـم

 

س ضياءً فلم تكد تـسـتـبـين

يستطير الأبصار كالقبس المـش

 

عل لا تستقـيمُ فـيه الـعـيون

وكأن الفِرنْدَ والـرونـق الـجـا

 

ري في صحفتيه مـاءٌ مَـعِـين

نعِمَ مخراقُ ذي الحفيطةِ في الهي

 

جاء يعصي به ونعـم الـقـرينُ

ما يبالي إذا انتـحـاه بـضـرب

 

أشمالٌ سَـطَـتْ بـهِ أم يمـينُ

يوازن شعر البحتري بشعر شاعر من طبقته

وإنما يوازن شعر البحتري بشعر شاعر من طبقته، ومن أهل عصره، ومن هو في مضماره، أو في منزلته... ومعرفة أجناس الكلام، والوقوف على أسراره، والوقوع على مقداره، شيء وإن كان عزيزاً، وأمر وإن كان بعيداً، فهو سهل على أهله، مستجيب لأصحابه، مطيع لأربابه، ينقدون الحروف ويعرفون الصروف.

ترتيب الحال بين البحتري وأبي تمام وابن الرومي

وإنما يبقى الشبهة في ترتيب الحال بين البحتري وأبي تمام وابن الرومي وغيره.. ونحن وإن كنا نفضل البحتري بديباجة شعره على ابن الرومي، وغيره من أهل زمانه، ونقدمه، بحسن عبارته، وسلاسة كلامه، وعذوبة ألفاظه، وقلة تعقد قوله.

الشعر ملتمس مستدرك والقرآن لا يدرك

والشعر قبيل ملتمس مستدرك، وأمر ممكن منطبع، ونظم القرآن عال عن أن يعلق به الوهم، أو يسمو إليه الفكر، أو يطمع فيه طامع، أو يطلبه طالب. "لاَ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلُ مِنْ حَكيمٍ حَمِيدٍ".

وكنت قد ذكرت لك قبل هذا أنك إن كنت بصنعة علم اللسان متدرباً، وفيه متوجهاً متقدماً أمكنك الوقوف على ما ذكرنا، والنفوذ فيما وصفنا، وإلا فاجلس في مجلس المقلدين، وارض بمواقف المتحيرين.

ونصحت لك حيث قلت: أنظر هل تعرف عروق الذهب، ومحاسن الجوهر، وبدائع الياقوت، ودقاق السحر، من غير معرفة بأسباب هذه الأمور، ومقدماتها? وهل يقطع سمت البلاد من غير اهتداء فيها?

معرفة الكلام أشد من المعرفة من كل صناعة

لكل شيء طريق يتوصل إليه به، وباب يؤخذ نحوه فيه، ووجه يؤتى منه، ومعرفة الكلام أشد من المعرفة بجميع ما وصفت لك. وأغمض وأدق وألطف، وتصوير ما في النفس، وتشكيل ما في القلب، حتى تعلمه وكأنك مشاهده: وإن كان قد يقع بالإشارة، ويحصل بالدلالة والإمارة، كما يحصل بالنطق الصريح، والقول الفصيح.

فللإشارات أيضاً مراتب، وللسان منازل، ورب وصف يصور لك الموصوف كما هو على جبهته لا خلف فيه، ورب وصف يربو عليه ويتعداه، ورب وصف يقصر عنه.

أقسام الوصف ومذاهبه

ثم إذا صدق الوصف انقسم إلى صحة وإتقان، وحسن وإحسان، وإلى إجمال وشرح، وإلى استيفاء وتقريب، وإلى غير ذلك من الوجوه. وكل مذهب وطريق له باب وسبيل: فوصف الجملة الواقعة كقوله تعالى: "لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَاراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً".

والتفسير كقوله: "وَيَوْمَ نُسَيِّرَ الْجِبَالَ وَتَرىَ الأَرْضَ بارِزَةً وَحَشَرْنَاهُم فَلم نُغَادِرْ منْهُم أَحَداً" إلى آخر الآيات في هذا المعنى، وكنحو قوله: "يَا أيُّهَا النَّاسُ اتَقُواْ ربَّكُم إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ، يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كلُّ مُرضِعَةٌ عَمَّا أَرْضَعَتْ، وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَها، وَتَرىَ النَّاسَ سُكارَى، وَمَا هُم بِسُكارَى، وَلَكنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ"، هذا مما يصور الشيء على جهته، ويمثل أهوال ذلك اليوم.

ومما يصور لك الكلام الواقع في الصفة كقوله حكاية عن السحرة لما توعدهم فرعون بما توعدهم به حين آمنوا "قَالُواْ لاَ ضَيْرَ إِنَّا إلَى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ، إِنَّا نَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤمِنينَ".

وقال في موضع آخر: "إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ، وَمَا تَنْقِمُ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بآيَاتِ رَبّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا، رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرَاً وَتَوفَّنا مُسْلِمِينَ" وهذا ينبئ عن كلام الحزين لما ناله، الجازع لما مسه.

ومن باب التسخير والتكوين قوله تعال:: "إِنَّما أَمْرُه إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ"، وقوله: "فَقُلْنَا لَهُم كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ"، وكقوله: "فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى إَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ"... وتقصي أقسام ذلك مما يطول، ولم أقصد استيفاء ذلك، وإنما ضربت لك المثل بما ذكرت، لتستدل، وأشرت إليك بما أشرت لتتأمل.

تحدثنا عن البحتري لأن الكتاب يفضلونه

وإنما اقتصرنا على ذكر قصيدة البحتري لأن الكتاب يفضلونه على أهل دهره، ويقدمونه على من في عصره، ومنهم من يدّعي له الإعجاز غلواً. ويزعم أنه يناغي النجم في قوله علواً. والملحدة تستظهر بشعره، وتتكثر بقوله، وتدعي كلامه من شبهاتهم، وعباراته مضافاً إلى ما عندهم من ترهاتهم، فبينا قدر درجته، وموضع رتبته، وحد كلامه، وهيهات أن يكون المطموع فيه كالميؤوس منه، وأن يكون الليل كالنهار، والباطل كالحق، وكلام رب العالمين ككلام البشر.

ملحد قدح في نظم القرآن

فإن قال قائل: فقد قدح الملحد في نظم القرآن، وادعى عليه الخلل في البيان، وأضاف إليه الخطأ في المعنى واللفظ، وقال ما قال، فهل من فصل? قيل: الكلام على مطاعن الملحدة في القرآن مما قد سبقنا إليه، وصنف أهل الأدب في بعضه فكفوا، وأتى المتكلمون على ما وقع إليهم فشفوا، ولولا ذلك لاستقصينا القول فيه في كتابنا.

وأما الغرض الذي صنفنا فيه، في التفصيل والكشف عن إعجاز القرآن، فلم نجده على التقريب الذي قصدنا، وقد رجونا أن يكون ذلك مغنياً ووافياً.

إملاء كتاب جديد

وإن سهل الله لنا ما نويناه من إملاء "معاني القرآن" ذكرنا في ذلك ما يشتبه من الجنس الذي ذكروه، لأن أكثر ما يقع من الطعن عليه، فإنما يقع على جهل القوم بالمعاني، أو بطريقة كلام العرب. وليس من مقصود كتابنا هذا، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : "فضل كلام الله على سائر الكلام كفضل الله على خلقه".

قصدنا في ما أملينا الاختصار

وقد قصدنا في ما أمليناه الاختصار، ومهدنا الطريق، فمن كمل طبعه للوقوف على فضل أجناس الكلام استدرك ما بينا.

من تعذر عليه الحكم بين الشعراء

كيف يمكنه النظر في القرآن

ومن تعذر عليه الحكم بين شعر جرير والفرزدق والأخطل، والحكم بين فضل زهير والنابغة، أو الفضل بين البحتري وأصحابه، ولم يعرف سخف مسيلمة في نظمه، ولم يعلم أنه من الباب الذي يهزأ به ويسخر منه، كشعر "أبى العيس" في جملة الشعر، وشعر "علي ابن صلاة" فكيف يمكنه النظر فيما وصفنا، والحكم على ما بينا? فإن قال قائل: فاذكر لنا من هؤلاء الشعراء الذين سميتهم الأشعر والأبلغ، قيل له: هذا أيضاً خارج عن غرض هذا الكتاب، وقد تكلم فيه الأدباء. ويحتاج أن يجدد لنحو هذا كتاب، ويفرد له باب، وليس من قبيل ما نحن فيه بسبيل.

اعتراض ورد عليه

وليس لقائل أن يقول: قد يسلم بعض الكلام من العوارض والعيوب، ويبلغ أمده في الفصاحة والنظم العجيب، ولا يبلغ عندكم حد المعجز، فلم قضيتم به في القرآن دون غيره من الكلام? وإنما لم يصح هذا السؤال، وما تذكر فيه، من أشعار في نهاية الحسن، وخطب ورسائل في غاية الفضل. لأنا قد بينا أن هذه الأجناس قد وقع النزاع فيها، والمساماة عليها، والتنافس في طريقها، والتنافر في بابها، وكان البون بين البعض والبعض في الطبقة الواحدة قريبا، والتفاوت خفيفاً، وذلك القدر من السبق إن ذهب عن الواحد لم ييأس منه الباقون، ولم ينقطع الطمع في مثله، وليس كذلك سمت القرآن لأنه قدر عرف أن الوهم ينقطع دون مجاراته، والطمع يرتفع عن مباراته ومساماته، وأن الكل في العجز عنه على حد واحد..

يزعمون أن كلام الجاحظ من السمت الذي لا يؤخذ

وكذلك قد يزعم زاعمون أن كلام الجاحظ من السمت الذي لا يؤخذ فيه، والباب الذي لا يذهب عنه. وأنت تجد قوماً يرون كلامه قريباً، ومنهاجه معيباً، ونطاق قوله ضيقاً، حتى يستعين بكلام غيره، ويفزع إلى ما يوشح به كلامه، من بيت سائر ومتصل نادر، وحكمة ممهدة منقولة، وقصة عجيبة مأثورة.

الجاحظ يستعين بكلام غيره

وأما كلامه في أثناء ذلك فسطور قليلة وألفاظه يسيرة، فإذا أحوج إلى تطويل الكلام خالياً عن شيء يستعين به، فيخلط بقوله من قول غيره، كان كلاماً ككلام غيره. فإن أردت أن تحقق هذا فانظر في كتبه في "نظم القرآن" وفي الرد عل النصارى، وفي خبر الواحد، وغير ذلك مما يجري هذا المجرى، هل تجد في ذلك كله ورقة تشتمل على نظم بديع، أو كلام مليح?.

??????بعض الكتاب ساووا الجاحظ

على أن متأخري الكتاب قد نازعوه في طريقته وجاذبوه على منهجه، فمنهم من سواه حين ساماه، ومنهم من أبر عليه إذا باراه، هذا أبو الفضل ابن العميد قد سلك مسلكه، وأخذ، فلم يقصر عنه، ولعله قد بان تقدمه عليه، لأنه يأخذ في الرسالة الطويلة فيستوفيها على حدود مذهبه، ويكملها على شروط صنعته، ولا يقتصر على أن يأتي بالأسطر من نحو كلامه، كما ترى الجاحظ يفعله في كتبه، متى ذكر من كلامه سطراً أتبعه من كلام الناس أوراقاً، وإذا ذكر منه صفحة بنى عليه من قول غيره كتاباً.

الشيء إذا استحسن اتبع

وهذا يدلك على أن الشيء إذا استحسن اتبع وإذا استملح قصد له وتعمد. وهذا الشيء يرجع إلى الأخذ بالفضل والتنافس في التقدم.

القرآن ?استحسن ولم يعارض

فلو كان في مقدور البشر معارضة القرآن لهذا الغرض وحده، لكثرت المعارضات، ودامت المنافسات، فكيف وهناك دواع لا انتهاء لها، وجوالب لا حد لكثرتها? لأنهم لو كانوا عارضوه لتوصلوا إلى تكذيبه، ثم إلى قطع المحامين دونه عنه، أو تتفيرهم عليه، وإدخال الشبهات على قلوبهم، وكان القوم يكتفون بذلك عن بذل النفوس، ونصب الأرواح، والأخطار بالأموال والذراري، في وجه عداوته، ويستغنون بكلام هو طبعهم وعادتهم وصناعتهم عن محاربته، وطول منافسته ومجاذبته.

وهذا الذي عرضناه على قلبك، يكفي إن هديت لرشدك، ويشفي إن دللت على قصدك... ونسأل الله حسن التوفيق والعصمة والتسديد، إنه لا معرفة إلا بهدايته، ولا عصمة إلا بكفايته، وهو على ما يشاء قدير، وحسبنا الله ونعم الوكيل.

الفصل التاسع

رد شبهة حول الإعجاز

قد يقال إن عجز أهل عصر النبي

فقد لا يعجز من أتى بعدهم:

فإن قال قائل: قد يجوز أن يكون أهل عصر النبي صلى الله عليه وسلم قد عجزوا عن الإتيان بمثل القرآن وإن كان من بعدهم من أهل الإعصار لم يعجزوا.

الجواب على هذا القول

قيل: هذا سؤال معروف، وقد أجيب عنه بوجوه: منها ما هو صواب ومنها ما فيه خلل، لأن من كان يجيب عنه بأنهم لا يقدرون على معارضته في الأخبار عن الغيوب، إن قدروا على مثل نظمه فقد سلم المسألة، لأنا ذكرنا أن نظمه معجز لا يقدر عليه فإذا أجاب بما قدمناه فقد وافق السائل على مراده.

إذا عجز أهل النبي فمن بعدهم أعجز

والوجه أن يقال فيه طرق: منها: أنا إذا علمنا أن أهل ذلك العصر كانوا عاجزين عن الإتيان بمثله، فمن بعدهم أعجز، لأن فصاحة أولئك في وجوه ما كانوا يتفننون فيه من القول، مما لا يزيد عليه فصاحة من بعدهم، وأحسن أحوالهم أن يقاربوهم، أو يساووهم فأما أن يتقدموهم أو يسبقونهم فلا.

تحققنا عجز سائر أهل الأعصار

ومنها: أنا قد علمنا عجز سائر أهل الإعصار كعلمنا بعجز أهل العصر الأول والطريق في العلم بكل واحد من الأمرين طريق واحد، لأن التحدي في الكل على جهة واحدة، والتنافر في الطباع على حد، والتكلف على منهاج لا يختلف، ولذلك قال الله تبارك وتعالى: "قُلْ لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنْسُ وَالْجنُّ عَلَى أَن يأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأَتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُم لِبَعْضٍ ظهيراً".

الفصل العاشر

في التحدي

لا يصح بعثة نبي من غير أن يؤتى دلالة

يجب أن تعلم أن من حكم المعجزات إذا ظهرت على الأنبياء أن يدعوا فيها أنها من دلالتهم وآيتهم، لأنه لا يصح بعثة النبي من غير أن يؤتى دلالة ويؤيد بآية، لأن النبي لا يتميز من الكاذب بصورته ولا بقول نفسه، ولا بشيء آخر سوى البرهان الذي يظهر عليه، فيستدل به على صدقه.. فإذا ذكر لهم أن هذه آيتي، وكانوا عاجزين عنها، صح له ما ادعاه، ولو كانوا غير عاجزين عنها لم يصح أن يكون برهاناً له، وليس يكون ذلك معجزاً إلا إذا تحداهم إلى أن يأتوا بمثله، بأن تحداهم وبان عجزهم صار ذلك معجزاً.

احتيج في القرآن إلى التحدي

وإنما احتيج في باب القرآن إلى التحدي، لأن من الناس من لا يعرف كونه معجزة، فإنما يعرف أولاً إعجازه بطريقه، لأن الكلام المعجز لا يتميز من غيره بحروفه وصورته، وإنما يحتاج إلى علم وطريق يتوصل به إلى معرفة كونه معجزاً فإن كان لا يعرف بعضهم إعجازه فيجب أن يعرف هذا، حتى يمكنه أن يستدل به.

متى رأى العرب عجزهم

صار القرآن بمنزلة معجزات الأنبياء السابقين

ومتى رأى أهل ذلك اللسان قد عجزوا عنه بأجمعهم مع التحدي إليه، والتقريع به، والتمكين منه، صار حينئذ بمنزلة من رأى اليد البيضاء وانقلاب العصا ثعباناً تتلقف ما يأفكون.

أهل الصنعة العربية يعرفون عجزهم وإعجازه

وأما من كان من أهل صنعة العربية، والتقدم في البلاغة ومعرفة فنون القول ووجوه المنطق، فإنه يعرف حين يسمعه عجزه عن الإتيان بمثله، ويعرف أيضاً أهل عصره ممن هو في طبقته، أو يدانيه في صناعته، عجزهم عنه، فلا يحتاج إلى التحدي حتى يعلم به كونه معجزاً.

لا يكون القرآن معجزاً حتى يعجز الجميع

ولو كان أهل الصنعة الذين صفتهم ما بينا لا يعرفون كونه معجزاً حتى يعرفوا عجز غيرهم عنه، لم يجز أن يعرف النبي صلى الله عليه وسلم أن القرآن معجز حتى يرى عجز قريش عنه بعد التحدي إليه، وإذا عرف عجز قريش لم يعرف عجز سائر العرب عنه حتى ينتهي إلى التحدي إلى أقصاهم، وحتى يعرف عجز مسيلمة الكذاب عنه، ثم يعرف حينئذ كونه معجزاً.

وهذا القول - إن قيل - أفحش ما يكون من الخطأ، فيجب أن تكون منزلة أهل الصنعة، في معرفة إعجاز القرآن بأنفسهم، منزلة من إذا رأى اليد البيضاء، وفلق البحر عرف بأن ذلك معجز.

كيف يعرف الإعجاز من لم يكن من أهل الصنعة

وأما من لم يكن من أهل الصنعة، فلا بد له من مرتبة قبل هذه المرتبة، يعرف بها كونه معجزاً، فيساوي حينئذ أهل الصنعة، فيكون استدلالها في تلك الحالة به على صدق من ظهر ذلك عليه، على سواه إذا ادعاه، دلالة على نبوته وبرهاناً على صدقه.

فأما من قدر أن القرآن لا يصير معجزاً إلا بالتحدي إليه، فهو كتقدير من ظن أن جميع آيات موسى وعيسى عليهما السلام ليست بآيات، حتى يقع التحدي إليها، والحض عليها، ثم يقع العجز عنها. فيعلم حينئذ أنها معجزات، وقد سلف من كلامنا في هذا المعنى ما يغني عن الإعادة.

كيف يعرف الأعجمي إعجاز القرآن

ويبين ما ذكرناه في غير البليغ، أن الأعجمي الآن لا يعرف إعجاز القرآن إلا بأمور زائدة على الأعجمي الذي كان في ذلك الزمان مشاهداً له، لأن من هو من أهل العصر يحتاج أن يعرف أولاً أن العرب عجزوا عنه.

وإنما يعلم، عجزهم عنه بنقل الناقلة إليه أن النبي صلى الله عليه وسلم قد تحدى العرب إلي فعجزوا عنه، ويحتاج في النقل إلى شروط، وليس يصير القرآن بهذا النقل معجزاً، كذلك لا يصير معجزاً بأن يعلم العربي الذي ليس ببليغ أنهم قد عجزوا عنه بأبلغهم، بل هو معجز في نفسه، وإنما طريق معرفة هذا وقوفهم على العلم بعجزهم عنه.

الفصل الحادي عشر

في قدر المعجز من القرآن

قدر المعجز عند الأشعريين

الذي ذهب إليه عامة أصحابنا، وهو قول أبي الحسن الأشعري في كتبه، أن أقل ما يعجز عنه من القرآن السورة، قصيرة كانت أو طويلة، أو ما كان بقدرها.

قال: فإذا كانت الآية بقدر حروف السورة، وإن كانت سورة الكوثر، فذلك معجز.

قال: ولم يقم دليل على عجزهم عن المعارضة في أقل من هذا القدر.

قدر المعجز عند المعتزلة

وذهب المعتزلة إلى أن كل سورة برأسها فهي معجزة.. وقد حكي عنهم نحو قولنا، إلا أن منهم من لم يشترط كون الآية بقدر السورة، بل شرط الآيات الكثيرة، وقد علمنا أنه تحداهم تحدياً إلى السور كلها ولم يخص. ولم يأتوا لشيء منها بمثل، فعلم أن جميع ذلك معجز.

وأما قوله عز وجل: "فَلْيَأْتُواْ بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ"، فليس بمخالف لهذا، لأن الحديث التام لا تتحصل حكايته في أقل من كلمات سورة قصيرة، وهذا يؤكد ما ذهب إليه أصحابنا ويؤيده، وإن كان قد يتأول قوله: "فَلْيَأْتُواْ بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ" على أن يكون راجعاً إلى القبيل دون التفصيل، وكذلك يحمل قوله تعالى: "قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ" على القبيل، لأنه لم يجعل الحجة عليهم عجزهم عن الإتيان بجميعه من أوله إلى آخره.

إعجاز السور القصار وإعجاز السور الطوال

فإن قيل: هل تعرفون إعجاز السور القصار بما تعرفون به إعجاز السور الطوال? وهل تعرفون إعجاز كل من قدر من القرآن بلغ الحد الذي قدرتموه بمثل ما تعرفون به إعجاز سورة البقرة ونحوها? فالجواب أن أبا الحسن الأشعري رحمه الله أجاب عن ذلك بأن كل سورة قد علم كونها معجزة بعجز العرب عنها.. وسمعت بعض الكبراء من أهل هذا الشأن يقول: إن ذلك يصح أن يكون علم ذلك توقيفاً.

والطريقة الأولى أسدّ، وليس هذا الذي ذكرناه أخيراً بمناف له، لأنه لا يمتنع أن يعلم إعجازه بطرق مختلفة، تتوافى عليه، وتجتمع فيه.

في اختلاف الأجوبة ضرب من الفائدة

واعلم أن تحت اختلاف هذه الأجوبة ضرباً من الفائدة، لأن الطريقة الأولى تبين أن ما علم به كون جميع القرآن معجزاً في كل سورة صغرت أو كبرت، فيجب أن يكون الحكم في الكل واحداً. والطريقة الأخيرة تتضمن تعذر معرفة إعجاز القرآن بالطريقة التي سلكناها، في بناء من التفصيل الذي بينا، فيما تعرف به في الكلام الفصاحة، وتتبين فيه البلاغة، حتى يعلم ذلك بوجه آخر، فيستوي في هذا القدر البليغ وغيره في أن لا يعلمه معجزاً حتى يستدل به من وجه آخر سوى ما يعلمه البلغاء، من التقدم في الصنعة، وهذا غير ممتنع، ألا ترى أن الإعجاز في بعض السور والآيات أظهر، وفي بعضها أغمض، وقد لا يحتاج في النظر في حال بعضها إلى تأمل كثير، ولا بحث شديد، حتى يتبين له الإعجاز، ويفتقر في بعضها إلى نظر دقيق، وبحث لطيف، حتى يقع على الجلية، ويصل إلى المطلب، ولا يمتنع أن يذهب عليه الوجه في بعض السور، فيحتاج أن يفرع فيه إلى إجماع أو توقيف، أو ما علمه من عجز العرب قاطبة عنه.

إن ادعى ملحد أن الإعجاز لا يقع في القصار

فإن ادعى ملحد، أو زعم زنديق، أنه لا يقع العجز عن الإتيان بمثل السور القصار، أو الآيات بهذا المقدار.

قلنا له: إن الإعجاز قد حصل بما بيناه، وعرف بما وقفنا عليه، من عجز العرب عنه. ثم فيه شيء آخر، وهو أن هذا سؤال لا يستقيم للملحد، لأنه يزعم أنه ليس في القرآن كله إعجاز، فكيف يجوز أن يناظره على تفصيله، وإذا ثبت لنا معه إعجازه في السور الطوال قامت الحجة عليه، وثبتت المعجزة، ولا معنى لطلبه لكثرة الأدلة والمعجزات.

ونحن نعلم أن إعجاز البعض بما بيناه، والبعض الآخر بأنه إذا ثبت الأصل لم يبق بعد ذلك إلا قولنا، لأنا عرفنا في البعض الإعجاز بما بينا ثم عرفنا في الباقي بالتوقيف ونحو ذلك.

ليس بممتنع أن يكون الإعجاز في بعض القرآن أظهر

وليس بممتنع اختلاف حال الكلام، حتى يكون الإعجاز على بعضه أظهر، وفي بعضه أغمض. ومن آمن ببعض دون بعض كان مذموماً، على ما قال الله تعالى: "أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ"، وقال: "وَتُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ"، فظاهره عند بعض أهل التأويل كالدليل على أن الشفاء ببعضه أوقع، وإن كنا نقول أنه يدل على أن الشفاء في جميعه.

الكلام يقع فيه البليغ والأبلغ

واعلم أن الكلام يقع فيه الأبلغ والبليغ، ولذلك كانوا يسمون الكلمة "يتيمة"، ويسمون البيت الواحد "يتيماً". سمعت إسماعيل بن عبادة يقول سمعت أبا بكر من مقسم يقول سمعت ثعلباً يقول سمعت الفراء يقول: العرب تسمي البيت الواحد يتيماً، وكذلك يقال الدرة اليتيمة، لانفرادها، فإذا بلغ البيتين والثلاثة فهي نتفة، وإلى العشرة تسمى قطعة، وإذا بلغ العشرين استحق أن يسمى قصيداً، وذلك مأخوذ من المخ القصيد، وهو المتراكم بعضه على بعض، وهو ضد الرار ومثله الرئيد انتهت الحكاية، ثم استشهد بقول لبيد:

فتذاكرا ثقلاً رئيداً بعدمـا

 

ألقت ذُكاء يمينها في كافر

يريد بيض النعام، لأنه ينضد بعضه على بعض:

يقع في الكلام البيت الوحشي والنادر والمثل السائر

وكذلك يقع في الكلام البيت الوحشي والنادر، والمثل السائر والمعنى الغريب، والشيء الذي لو اجتهد له لم يقع عليه، فيتفق له ويصادفه.

قال لي بعض علماء هذه الصنعة وجاريته في ذلك: إن هذا مما لا سبب له يخصه، وإنما سببه القرارة في أصل الصنعة، والتقدم في عيون المعرفة، فإذا وجد ذلك وقع له من الباب ما يطرد عن حساب، وما يشذ عن تفصيل الحساب، فأما ما قلنا من أن ما بلغ قدر السورة معجز، فإن ذلك صحيح.

الفصل الثاني عشر

في أنه هل يعلم إعجاز القرآن ضرورة?

النبي يعلم الإعجاز ضرورة

ذهب أبو الحسن الأشعري إلى أن ظهور ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم يعلم ضرورة، وكونه معجزاً يعلم بالاستدلال، وهذا المذهب محكي عن المخالفين.

الأعجمي يعلم الإعجاز بالاستدلالاً

والذي نقوله في هذا أن الأعجمي لا يمكنه أن يعلم إعجازه إلا استدلالاً، وكذلك من لم يكن بليغاً.

البليغ يعلم من نفسه ضرورة عجزه

فأما البليغ الذي قد أحاط بمذاهب العربية، وغرائب الصنعة، فإنه يعلم من نفسه ضرورة عجزهعن الاتيان بمثله ، ويعلم عجز غيره بمثل ما يعرف عجز نفسه، كما أنه إذا علم الواحد منا أنه لا يقدر على ذلك فهو يعلم عجز غيره استدلالاً.

الفصل الثالث عشر

فيما يتعلق به الإعجاز

ما الذي وقع التحدي إليه?

إن قال قائل: بينوا لنا ما الذي وقع التحدي إليه، أهو الحروف المنظومة، كنظمها متتابعة كتتابعها أو الكلام القائم بالذات، أو غير ذلك?

تحداهم بنظم القرآن لا بمثل الكلام القديم

قيل: الذي تحداهم به أن يأتوا بمثل الحروف التي هي نظم القرآن، منظومة كنظمها ،متتابعة كتتابعها مطردة كاطرادها، ولم يتحداهم إلى أن يأتوا بمثل الكلام القديم الذي لا مثل له، وإن كان كذلك فالتحدي واقع إلى أن يأتوا بمثل الحروق المنظومة، التي هي عبارة عن كلام الله تعالى في نظمها وتأليفها، وهي حكاية لكلامه، ودلالات عليه، وأمارات له، على أن يكونوا مستأنفين لذلك، لا حاكين بما أتى به النبي صلى الله عليه وسلم .

التوراة والإنجيل كلام قديم وليس بمعجز في النظم

ولا يجب أن يقدر مقدر، أو يظن ظان، أنا حين قلنا: إن القرآن معجز فإنه تحداهم إلى أن يأتوا بمثله أردنا غير ما فسرناه من العبارات عن الكلام القديم القائم بالذات. وقد بينا قبل هذا أنه لم يكن ذلك معجزاً لكونه عبارة عن الكلام القديم، لأن التوراة والإنجيل عبارة عن الكلام القديم، وليس ذلك بمعجز في النظم والتأليف، وكذلك ما دون الآية - كاللفظة - عبارة عن كلامه، وليست بمفردها بمعجزة.

جوز البعض أن يكون التحدي إلى مثل الكلام القديم

وقد جوز بعض أصحابنا أن يتحداهم إلى مثل كلامه القديم القائم بنفسه، والذي عول عليه مشايخنا ما قدمنا ذكره، وعلى ذلك أكثر مذاهب الناس.. ولم يجب أن نفسر ونذكر موجب هذا المذهب الذي حكيناه، وما يتصل به، لأنه خارج عن غرض كتابنا، لأن الإعجاز وقع في نظم الحروف، التي هي دلالات وعبارات عن كلامه، وإلى مثل هذا النظم وقع التحدي، فبينا وجه ذلك، وكيفية ما يتصور القول فيه، وأزلنا توهم من يتوهم أن الكلام القديم حروف منظومة، أو حروف غير منظومة، أو شيء مؤلف، أو غير ذلك، مما يصح أن يتوهم، على ما سبق من إطلاق القول فيما مضى.

الفصل الرابع عشر

في وصف وجوه من البلاغة

ذكر بعض أهل الأدب والكلام أن البلاغة على عشرة أقسام: الإيجاز، والتشبيه، والاستعارة، والتلاؤم، والفواصل، والتجانس، والتصريف، والتضمين، والمبالغة، وحسن البيان.

الإيجاز

فأما الإيجاز: فإنما يحسن مع ترك الإخلال باللفظ والمعنى، فيأتي باللفظ القليل الشامل لأمور كثيرة، وذلك ينقسم إلى حذف وقصر: فالحذف الإسقاط: للتخفيف، كقوله: "وَاسْأَلِ القَرْيَةِ"، وقوله: "طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ".

وحذف الجواب كقوله: "وَلَوْ أَنَّ قُرْآنَاً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى"، كأنه قيل لكان هذا القرآن. والحذف أبلغ من الذكر لأن النفس تذهب كل مذهب في القصد من الجواب.

والإيجاز بالقصد كقوله: "وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ"، وقوله "يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهمْ هُمُ الْعَدُوُّ"، وقوله: "إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُم"، "وَلاَ يَحيقُ الْمَكْرُ السَّيِّءُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ".. وإطناب فيه بلاغة، فأما التطويل ففيه عي..

التشبيه

وأما التشبيه بالعقد على أن أحد الشيئين يسد مسد الآخر في حس أو عقل، كقوله: "وَالَّذِينَ كَفُرُواْ أَعْمَالُهُم كَسَرَابٍ بِقِيعةٍ يَحْسَبُهُ الْظَمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً".

وقوله: "مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِم أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ".

وقوله: "وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّه ظُلَّةٌ".

وقوله: "إِنّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَ الأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زَخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُم قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَارَاً فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً كَأَنْ لَّمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ".

وقوله: "إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُّسْتَمِّرٍ، تَنْزِعُ النَّاسَ كّأَنَّهُم أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ".

وقوله: "فَإِذَا اْنشَقَّتِ السَّماءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ".

وقوله: "وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلاَدِ كَمَثَلِ غِيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرَّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَامَاً".

وقوله: "وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّماءِ وَالأَرْضِ".

وقوله: "مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُواْ التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارَ يَحْمِلُ أَسْفَاراً".

وقوله تعالى: "فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَث".

وقوله: "كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ".

وقوله: "مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخّذُوا مِن دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتَاً، وإِنَّ أَوْهَنَ الْبِيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ".

وقوله: "وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَاْلأَعْلاَمِ".

وقوله: "خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالفَخَّارِ".. ونحو ذلك.

الاستعارة

ومن ذلك باب الاستعارة: وهو بيان التشبيه، كقوله تعالى: "وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءٍ مَنْثُوراً".

وكقوله: "فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ"، وكقوله: "إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَة".

وقوله: "وَلَمَّا سَكَتَ عِن مُّوسَى الْغَضَبُ"..

وكقوله: "فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً".

وقوله: "بَلْ نَقْذِفُ بِالحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ"، فالدمغ والقذف مستعار.

وقوله: "وَآيَةٌ لَّهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ".

وقوله: "وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُم".

وقوله: "فذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ".

وقوله: "حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا".

وقوله: "وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ".

وقوله: "مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرَاءُ".

وقوله: "فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ".

وقوله: "أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَارَاً فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدَاً".

وقوله: "حَصِيدَاً خَامِدِينَ".

وقوله: "أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ".

وقوله: "وَدَاعِيَاً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجَاً مُنِيراُ".

وقوله: "وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ".

وقوله: "وَلَنُذِيقَنَّهُم مِنَ الْعَذَابِ الأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الأكْبَرِ".

وقوله: "فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ"، يريد أن لا إحساس بآذانهم من غير صمم.

وقوله: "وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيِهم"، وهذا أوقع من اللفظ الظاهر، وأبلغ من الكلام الموضوع.

التلاؤم

وأما التلاؤم؛ فهو تعديل الحروف في التأليف، وهو نقيض التنافر، كقول الشاعر:

وقبرُ حربٍ بمكانٍ قـفـرٍ

 

وليس قربَ قبرِ حربٍ قبرُ

قالوا: هو من شعر الجن، حروفه متنافرة، لا يمكن إنشاده إلا بتتعتع فيه.

التلاؤم على ضربين

والتلاؤم على ضربين: أحدهما في الطبقة الوسطى كقوله:

رمتني وستْرُ الله بيني وبينها

 

عشيةَ آرامِ الكناس "رمـيمُ"

رميمُ التي قالت لجارات بيتها

 

ضمنتُ لكم أن لا يزال يَهِيمُ

ألا رُبَّ يومٍ لو رمتني رميتُها

 

ولكن عهدي بالنضال قـديمُ

القرآن كله في الطبقة العليا من التلاؤم

قالوا والمتلائم في الطبقة العليا القرآن كله، وإن كان بعض الناس أحسن إحساساً من بعض، كما أن بعضهم يفطن للموزون بخلاف بعض.

والتلاؤم: حسن الكلام في السمع، وسهولته في اللفظ، ووقع المعنى في القلب، وذلك كالخط الحسن، والبيان الشافي..

والمتنافر كالخط القبيح، فإذا انضاف إلى التلاؤم حسن البيان، وصحة البرهان، في أعلى الطبقات، ظهر الإعجاز لمن كان جيد الطبع، وبصيراً بجودة الكلام، كما يظهر له أعلى طبقة الشعر.

والمتنافر ذهب الخليل إلى أنه من بعد شديد، أو قرب شديد، فإذا بعد فهو كالطفرة، وإذا قرب جداً كان بمنزلة مشي المقيد، ويبين ذلك بقرب مخارج الحروف وتباعدها.

الفواصل

وأما الفواصل: فهي حروف متشاكلة في المقاطع، يقع بها إفهام المعاني. وفيها بلاغة. والإسجاع عيب، لأن السجع يتبع اللفظ، والفواصل تابعة للمعاني.. والسجع كقول مسيلمة.

ثم الفواصل قد تقع على حروف متجانسة كما قد تقع على حروف متقاربة، ولا تحتمل القوافي ما تحتمل الفواصل، لأنها ليست في الطبقة العليا في البلاغة، لأن الكلام يحسن فيها بمجانسة القوافي، وإقامة الوزن، وأما التجانس فإنه بيان أنواع الكلام الذي يجمعه أصل واحد. وهو على وجهين: مزاوجة ومناسبة.

فالمزاوجة كقوله تعالى: "فَمَنْ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيهِ بَمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ"، وقوله: "وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ اللَّهُ"، وكقول عمرو بن كلثوم:

ألا لا يجهلَنْ أحدٌ علـينـا

 

فنجهلَ فوقَ جهلِ الجاهلينا

وأما المناسبة فهي كقوله تعالى: "ثُمَّ انْصَرَفُواْ صَرَفَ اللَّهُ قُلُبَهُم" وقوله: "يَخَافُونَ يَومَاً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ".

التصريف

وأما التصريف: فهو تصريف الكلام في المعاني، كتصريفه في الدلالات المختلفة: كتصريف الملك في معاني الصفات، فصرف في معنى مالك وملك وذي الملكوت والمليك، وفي معنى التمليك والتملك والإملاك.. وتصريف المعنى في الدلالات المختلفة، كما كرر من قصة موسى في مواضع.

التضمين

وأما التضمين: فهو حصول معنى فيه من غير ذكره له باسم أو صفة هي عبارة عنه، وذلك على وجهين: تضمين توجبه البنية كقولنا معلوم، يوجب أنه لا بد من عالم.

وتضمين يوجبه معنى العبارة، من حيث لا يصح إلا به، كالصفة بضارب يدل على مضروب.

التضمين إيجاز

والتضمين كله إيجاز، والتضمين الذي تدل عليه دلالات القياس أيضاً إيجاز، وذكر أن "بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ" من باب التضمين، لأنه تضمن تعليم الاستفتاح في الأمور باسمه، على جهة التعظيم لله تبارك وتعالى، أو التبرك باسمه.

المبالغة

وأما المبالغة: فهي الدلالة على كثرة المعنى، وذلك على وجوه.

منها مبالغة في الصفة المبينة لذلك، كقولك رحمن، عدل عن ذلك للمبالغة، وكقوله غفار، وكذلك فعال وفعول كقوله شكور وغفور وفعيل كقوله رحيم وقدير.

ومن ذلك أن يبالغ باللفظة التي هي صفة عامة. كقوله: "خَالِقٌ كُلِّ شَيءِ"، وكقوله: "فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُم مِنَ الْقَوَاعِدِ"، وكقوله "وَلاَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حّتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ". وكقوله: "وَإنَّا أوْ إِيَّاكَمْ لَعَلَى هُدىً أَوْ فِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ". وقد يدخل فيه الحذف الذي تقدم ذكره للمبالغة.

البيان على أربعة أقسام

وأما حسن البيان فالبيان على أربعة أقسام: كلام، وحال، وإشارة، وعلامة. ويقع التفاضل في البيان، ولذلك قال عز من قائل: "الرَّحْمَنُ، عَلَّمَ الْقُرْآنَ، خَلَقَ الإِنْسَانَ، عَلَّمَهُ البَيَانَ".

وقيل: أعيا من باقل، سئل عن ظبية في يده بكم اشتراها? فأراد أن يقول بأحد عشر، فأشار بيديه ماداً أصابعه العشرة ثم أدلع لسانه، وأفلت الظبي من يده... ثم البيان على مراتب.

من الناس من يريد أخذ إعجاز القرآن من وجوه البلاغة

قلنا: قد كنا حكينا أن من الناس من يريد أن يأخذ إعجاز القرآن من وجوه البلاغة، التي ذكرنا أنها تسمى البديع في أول الكتاب مما مضت أمثلته في الشعر.

ومن الناس من زعم أنه يأخذ ذلك من هذه الوجوه التي عددناها في هذا الفصل.

من الإعجاز ما لا سبيل إليه بالتعلم

واعلم أن الذي بيناه قبل هذا، وذهبنا إليه، هو سديد، وهو أن هذه الأمور تنقسم، فمنها، ما يمكن الوقوع عليه، والتعمل له، ويدرك بالتعلم، فما كان كذلك فلا سبيل إلى معرفة إعجاز القرآن به.

وأما ما لا سبيل إليه بالتعلم والتعمل من البلاغات، فذلك هو الذي يدل على إعجازه، ونحن نضرب لذلك أمثلة. لتقف على ما ذهبنا إليه، وذكرنا في هذا الفصل عن هذا القائل أن التشبيه تعرف به البلاغة، وذلك مسلم، ولكن إن قلنا: ما وقع من التشبيه في القرآن معجز، عرض علينا من التشبيهات الجارية في الأشعار ما لا يخفى عليك.

وأنت تجد في شعر ابن المعتز من التشبيه البديع الذي يشبه السحر، وقد تتبع في هذا ما لم يتتبع غيره، واتفق له ما لم يتفق لغيره من الشعراء، وكذلك كثير من الوجوه البلاغة، قد بينا أن تعلمها يمكن وليس تقع البلاغة بوجه واحد منها دون غيره. فإن كان إنما يعني هذا القائل أنه أتى في كل معنى يتفق في كلامه بالطبقة العالية، ثم كان ما يصل به كلامه بعضه ببعض وينتهي منه إلى متصرفاته على أتم البلاغة، وأبدع البراعة، فهذا مما لا نأباه، بل نقول به.

وإنما ننكر أن يقول قائل: إن بعض هذه الوجوه بانفرادها قد حصل فيه الإعجاز، من غير أن يقارنه ما يتصل به الكلام، ويفضي إليه، مثل ما يقول: إن ما أقسم به وحده بنفسه معجز، وإن التشبيه معجز التجنيس معجز، والمطابقة بنفسها معجزة.

إعجاز الآية لألفاظها ونظمها لا لموضع التشبيه

فأما الآية التي فيها ذكر التشبيه: فإن ادعى إعجازها لألفاظها ونظمها وتأليفها فأني لا أدفع ذلك، وأصححه، ولكن لا أدعي إعجازها لموضع التشبيه.

وصاحب المقالة التي حكيناها أضاف ذلك إلى موضع التشبيه، وما قرن به من الوجوه، ومن تلك الوجوه ما قد بينا أن الإعجاز يتعلق به كالبيان، وذلك لا يختص بجنسٍ من المبين دون جنس، ولذلك قال: "هَذا بَيَانٌ لِلنَّاسِ"، وقل: "تِبْيَانَاً لِكُلِّ شَيءٍ"، وقال "بِلِسَانٍ عَرَبيٍّ مُبينٍ"، فكرر في مواضع ذكره أنه مبين.

القرآن أعلى منازل البيان

فالقرآن أعلى منازل البيان، وأعلى مراتبه ما جمع وجوه الحسن وأسبابه. وطرقه وأبوابه، من تعديل النظم وسلامته، وحسنه وبهجته، وحسن موقعه في السمع وسهولته في اللسان، ووقوعه في النفس موقع القبول، وتصوره تصور المشاهد، وتشكله على جهته، حتى يحل محل البرهان، ودلالة التأليف مما لا ينحصر حسناً وبهجة وسناء ورفعة...

إذا علا الكلام وقع في القلوب

وإذا علا الكلام في نفسه كان له من الواقع في القلوب، والتمكن في النفوس، ما يذهل ويبهج، ويقلق ويؤنس، ويطمع ويؤيس، ويضحك ويبكي، ويحزن ويفرح، ويسكن ويزعج، ويشجي ويطرب، ويهز الأعطاف، ويستميل نحوه الأسماع، ويورث الأريحية والعزة، وقد يبعث على بذل المهج والأموال شجاعة وجوداً. ويرمي السامع من وراء رأيه مرمى بعيداً، وله مسالك في النفوس لطيفة، ومداخل إلى القلوب دقيقة، وبحسب ما يترتب في نظمه، ويتنزل في موقعه، ويجري على سمت مطلعه ومقطعه، يكون عجيب تأثيراته، وبديع مقتضياته، وكذلك على حسب مصادره، يتصور وجوه موارده.

الكلام ينبئ عن محل صاحبه

وقد ينبئ الكلام عن محل صاحبه، ويدل على مكانه متكلمه، وينبه على عظيم شأن أهله، وعلى علو محله.

ألا ترى أن الشعر في الغزل إذا صدر عن محب كان أرق وأحسن. وإذا صدر عن متغزل، وحصل عن متضع، نادى على نفسه بالمداجاة، وأخبر عن خبيئه في المراءة.

يصدر الشعر في وصف الحرب عن الشجاع

فيدل على كنهه وحقيقته

وكذلك قد يصدر الشعر في وصف الحرب عن الشجاع، فيعلم وجه صدوره، ويدل على كنه وحقيقته. وقد يصدر عن المتشبه، ويخرج عن المتصنع، فيعرف من حاله ما ظن أن يخفيه، ويظهر من أمره خلاف ما يبديه، وأنت تجد لقول المتنبي:

فالخيلُ والليلُ والبيداء تعـرفـنـي

 

والحرب والطعن والقِرطاس والقلمُ

من الواقع في القلب - لما تعلم أنه من أهل الشجاعة - ما لا تجده للبحتري في قوله:

وأنا الشجاعُ وقد بدا لك موقفي

 

بعقرقس والمشرفية شُهَّـدِي

تجد في الفخر لابن المعتز ما لا تجده لغيره

وتجد لابن المعتز في موقع شعره من القلب، في الفخر وغيره، ما لا تجده لغيره، لأنه إذا قال:

إذا شئتُ أوقرتُ البلاد حوافراً

 

وسارت ورائي هاشمٌ ونزارُ

وعَمَّ السماءَ النقعُ حتى كـأن

 

دُخان وأطراف الرماح شَرَارُ

وقال:

قد ترديت بالمكارم دهـراً

 

وكفتني نفسي من الإفتخارِ

أنا جيشٌ إذا غزوت وحيداً

 

ووحيدُ في الجَحْفَلِ الجرَّارِ

وقال:

أيها السائلي عن الحسب الأط

 

يبِ ما فوقه لخـلـق مـزيدُ

نحن آلُ الرسول والعترةُ الحقُّ

 

وأهلُ القِرى فمـاذا تـريدُ?

ولنا ما أضاءَ صبـحٌ عـلـيه

 

وأتـتـه رايات لـيلٍ سُـودُ

وكما أنشدنا الحسن بن عبد الله قال: أنشدنا محمد بن يحيى لابن المعتز قصيدته التي يقول فيها:

أنا ابن الذي سادهم في الحيا

 

ة وسادهم بي تحت الثرى

ومالي في أحد مَـرغـبٌ

 

بلى فيَّ يرغبُ كلُّ الورى

وأسهرُ للمجد والمكـرُمـا

 

ت إذا كَحَلتْ أعيُنٌ بالكَرَى

فانظر في القصيدة كلها، ثم في جميع شعره، تعلم أنه ملك الشعر، وأنه يليق به من الفخر خاصة، ثم مما يتبعه مما يتعاطاه، ما لا يليق بغيره بل ينفر عن سواه، ولما أحب أن أكثر عليك، فأطول الكتاب، بما بخرج عن غرضه...

أبو فراس يجود في الشجاعة والفخر

وكما ترى من قول أبي فراس الحمداني، في نفسك إذا قال:

ولا أصبح الحيَّ الخلوف بـغـارة

 

ولا الجيشَ ما لم يأته قبليَ النُـذْرُ

ويا رُبَّ دارٍ لم تخفنـي مـنـيعةٍ

 

طلعت عليها بالردى أنا والفجـر

وساحبةِ الأذيال نحوي لقـيتُـهـا

 

فلم يلقَها جافي اللقاء ولا وعـر

وهبت لها ما حازه الجيشُ كـلُّـهُ

 

وأبتُ ولم يُكشَف لأبياتها سِـتـر

وما راح يُطغيني بأثوابه الغـنـى

 

ولا بات يُثنيني عن الكرم الفقـرُ

وما حاجتي في المال أبغي وُفُوره

 

إذا لم أفر عرضي فلا وَفَر الوَفْرُ

الشيء إذا صدر من أهله بانت فخامته

والشيء إذا صدر من أهله، وبدا من أصله، وانتسب إلى ذويه، سلم في نفسه، وبانت فخامته وشواهد أثر الاستحقاق فيه.. وإذا صدر من متكلف، وبدا من متصنع، بان آثر الغرابة عليه، وظهرت مخايل الإستيحاش فيه، وعرف شمائل التخير منه.

يعرف شعر أبي نواس بأثر الشطارة والبطالة

إنا نعرف في شعر أبي نواس أثر الشطارة، وتمكن البطالة. وموقع كلامه في وصف ما هو بسبيله، من أمر المغازلة، ووصف الخمر، والخمار، كما تعرف موقع كلام ذي الرمة، في وصف المهامه والبوادي. والجمال والأنساع والأزمة.

عيب على أبي نواس وصف الطلول

وعيب أبي نواس التصرف في وصف الطلول والرباع والوحش، ففكر في قوله:

دعِ الأطلال تسفيها الجـنـوبُ

 

وتُبلي عهد جدتها الخـطـوبُ

وخلِ لراكب الوجنـاء أرضـاً

 

تخبُّ بها النجيبة والنـجـيب

بلاد نبتهـا عـشـرٌ وطـلـح

 

وأكثر صيدِها ضـبـع وذِيب

ولا تأخذ عن الأعراب لـهـواً

 

ولا عيشاً فعيشُـهُـمٌ جَـديب

دع الألبانَ يشربـهـا رجـال

 

رقيقُ العيش عندهم غـريب

إذا راب الحليبُ فبُـلْ عـلـيه

 

ولا تحرجْ، فما في ذاك حُوبُ

فأطيبُ منه صافـيةٌ شَـمُـول

 

يطوفُ بكأسهـا سـاقٍ أديبُ

كأن هديرَها في الدنِّ يحكـي

 

قراة القسِّ قابَلهُ الـصـلـيبُ

أعاذلُ أقصري عن طول لومي

 

فراجي توبتي عنـدي يخـيبُ

تعيبينَ الـذنـوبَ، وأيّ حُـرٍّ

 

من الفِتيان ليس لـه ذنـوبُ?

وقوله:

صفةُ الطلول بلاغةُ الفـدم

 

فاجعل صفاتِك لابنةِ الكرمِ

لا يصف الأطلال إلا من عاش قريباً منها

وسمعت الصاحب إسماعيل بن عباد يقول: سمعت برلكويه الزنجاني يقول: أنشد بعض الشعراء هلال بن يزيد قصيدة على وزن قصيدة الأعشى:

وَدِّعْ هريرةَ إن الركبَ مرتحلُ

 

وهل تطيقُ وداعاً أيها الرجلُ

وكان وصف فيها الطلل، قال برلكويه: فقال لي هلال، فقلت بديهاً:

إذا سمعت فتى يبكي على طلل

 

من أهل زَنْجانَ فاعلمْ أنَّهُ طللُ

الشيء من معدنه أعز وفي مظانه أحسن

وإنما ذكرت لك هذه الأمور لتعلم أن الشيء في معدنه أعز، وفي مظانه أحسن، وإلى أصله أنزع، وبأسبابه أليق، وهو يدل على ما صدر منه، وينبه ما انتج عنه، ويكون قراره على موجب صورته، وأنواره على حسن محل، ولكل شيء حد ومذهب، ولكل كلام سبيل ومنهج..

أبو بكر يصف كلام مسيلمة

وقد ذكر أبو بكر الصديق رضي الله عنه في كلام مسيلمة ما أخبرتك به، فقال: إن هذا كلام لم يخرج من آل. فدل على أن الكلام الصادر عن عزة الربوبية، ورفعة الأهلية، يتميز عما لم يكن كذلك...

بيان القرآن أشرف بيان

ثم رجع الكلام بنا إلى ما ابتدأنا به، من عظيم شأن البيان، ولو لم يكن فيه إلا ما مَنَّ به الله على خلقه بقوله: "خَلَقَ الإِنْسَانَ عَلَّمَهُ الْبَيَانَ". فأما بيان القرآن فهو أشرف بيان وإهداء. وأكمله وأعلاه، وأبلغه وأسناه. تأمل قوله تعالى: "أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذّكْرِ صَفْحاً أَنْ كُنُتُمْ قَوْماً مُّسْرِفِينَ"، في شدة التنبيه على تركهم الحق، والإعراض عنه، وموضع امتنانه بالذكر والتحذير.

وقوله: "وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذ ظَّلَمتُمْ، أَنَّكُم فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ". وهذا بليغ في التحسير.

وقوله: "وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عُنْهُ"، وهذا يدل على كونهم مجبولين على الشر، معودين لمخالفة النهي والأمر.

وقوله: "الأَخِلاَّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُم لِبَعْضٍ عَدُوَّ إِلاَّ الْمتَّقِينَ"، هو في نهاية الوضع من الخلة الأعلى التقوى.

وقوله: "أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّه"، وهذا نهاية في التحذير من التفريط.

وقوله: "أَفَمَنْ يُلْقَى في النَّارِ خَيْرٌ أَم مَّنْ يَأْتي آمِناً يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُواْ مَا شِئْتُم إِنَّهُ بما تَعْمَلُونَ بَصيرٌ"، هي النهاية في الوعيد والتهديد: وقوله: "وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُاْ العَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلى مَرَدٍّ مِّن سَبِيل، وَتَرَاهُمْ يعْرَضُونَ عَلَيْها خَاشِعِين مِنَ الذُّلِّ يَنظُرُونَ مِن طَرْفٍ حَفيٍّ" نهاية في الوعيد.

وقوله: "وَفيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأَنفُسُ وَتَلذُّ الأَعْيُنُ وَأّنتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ" نهاية في الترغيب.

وقوله: "مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ إِذاً لَّذهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلاَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ". وكذلك قوله: "لَوْ كَانَ فِيهمَا آلِهةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتاَ" نهاية في الحجاج.

وقوله: "وَأَسِرُّواْ قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُواْ بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ، أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطيف الخَبِيرُ"، نهاية في الدلالة على علمه بالخفيات.

?طرق الإعجاز

ولا وجه للتطويل، فإن بيان الجميع في الرفعة، وكبر المنزل على سواء.. وقد ذكرنا من قبل أن البيان يصح أن يتعلق به الإعجاز، وهو معجز من القرآن.

وما حكينا عن صاحب الكلام من المبالغة في اللفظ فليس ذلك بطرق الإعجاز، لأن الوجوه التي ذكرت قد تتفق في كلام غيره، وليس ذلك بمعجز، بل قد يصح أن يقع في المبالغة في المعنى والصفة وجوه من اللفظ يثمر الإعجاز.

وتضمين المعاني أيضاً قد يتعلق به الإعجاز، إذا حصلت للعبارة طريق البلاغة في أعلى درجاتها...

وأما الفواصل قد بينا أنه يصح أن يتعلق بها الإعجاز..

وكذلك قد بينا في المقاطع والمطالع نحو هذا..

وبينا في تلاؤم الكلام ما سبق من صحة تعلق الإعجاز به...

والتصرف في الإستعارة البديعة يصح أن يتعلق به الإعجاز.

كما يصح مثل ذلك في حقائق الكلام، لأن البلاغة في كل واحد من البابين، تجري مجرى واحداً، وتأخذ مأخذاً مفرداً.

وأما الإيجاز والبسط فيصح أن يتعلق بهما الإعجاز، كما يتعلق بالحقائق. والإستعارة والبيان في كل واحد منهما ما لا يضبط حده، ولا يقدر قدره، ولا يمكن التوصل إلى ساحل بحره بالتعلم، ولا يتطرق إلى غوره بالتسبب.

ما لا يكون من طرق الإعجاز

وكل ما يمكن تعلمه، ويتهيأ تلقنه، ويمكن تخليصه، ويستدرك أخذه فلا يجب أن يطلب وقوع الإعجاز به، ولذلك قلنا إن السجع مما ليس يلتمس فيه الإعجاز، لأن ذلك أمر محدود، وسبيل مورود، ومتى تدرب الإنسان به واعتاده، لم يستصعب عليه أن يجعل جميع كلامه منه...

وكذلك التجنيس والتطبيق متى أخذ حدهما، وطلب وجههما، استوفى ما شاء، ولم يتعذر عليه أن يملأ خطابه منه. كما أولع بذلك أبو تمام، البحتري، وإن كان البحتري أشغف بالمطابق، وأقل طلباً للمجانس.

فإن قال قائل: "هلاَّ قلت إن هذين البابين يقع فيهما مرتبة عالية لا يوصل إليها بالتعلم، ولا تملك بالتعمل، كما ذكرتم في البيان وغير ذلك? قلنا: لو عمد إلى كتاب الأجناس، ونظر في كتاب العين، لم يتعذر عليه التجنيس الكثير. فأما الإطباق فهو أقرب منه، وليس كذلك البيان، والوجوه التي رأينا الإعجاز فيها، لأنها لا تستوفى بالتعلم.

قد يقال إن البيان قد يتعلم

فإن قيل: فالبيان قد يتعلم.. قيل: إن الذي يمكن أن يتوصل إليه بالتعلم يتفاوت فيه الناس، وتتناهى فيه العادات، وهو كما يعلم من مقادير القوى في حمل الثقيل وإن كان الناس يتقاربون في ذلك، فيرمون فيه إلى حد، فإذا تجاوزوه وقفوا بعده، ولم يمكنهم التخطي، ولم يقدروا على التعدي، إلا أن يحصل ما يخرق العادة، وينقض العرف، ولن يكون ذلك إلا للدلالة على النبوات، على شروط في ذلك القدر الذي يفوت الحد في البيان، ويتجاوز الوهم، ويشذ عن الصنعة، ويقذفه الطبع في النادر القليل. كالبيت البديع، والقطعة الشريفة، التي تتفق في ديوان الشاعر، والفقرة في لسان كاتب، حتى يكون الشاعر ابن بيت أو بيتين، أو قطعة أو قطعتين، والأديب شهيد كلمة أو كلمتين، وذلك أمر قليل.

لو كان كلام الشاعر يطرد على البديع

الرائع لأمكن أن يدعي الإعجاز

ولو كان كلامه كله يطرد على ذلك المسلك، ويستمر على ذلك المنهج، أمكن أن يدعي فيه الإعجاز، ولكنك إن كنت من أهل الصنعة، تعلم قلة الأبيات الشوارد، والكلمات الفرائد، وأمهات القلائد، فإن أردت أن تجد قصيدة؛ كلها وحشية، وأردت أن تراها مثل بيت من أبياتها مرضية، لم تجد ذلك في الدواوين، ولم تظفر بذلك إلى يوم الدين.

نحن لا ننكر على البشر الكلمة الشريفة واللفظة البديعة

ونحن لم ننكر أن يستدرك البشر كلمة شريفة، ولفظة بديعة، وإنما أنكرنا أن يقدروا على مثل نظم سورة أو نحوها، وأحلنا أن يتمكنوا من حد في البلاغة. ومقدار في الخطابة، وهذا كما قلناه من أن صورة الشعر قد تتفق في القرآن، وإن لم يكن له حكم الشعر.

قدر المعجز هي السورة طالت أو قصرت

فأما عجز المعجز فقد بينا أنها السورة طالت أو قصرت، وبعد ذلك خلاف: من الناس من قال مقدار كل سورة أو أطول أية فهو معجز، وعندنا كل واحد من الأمرين معجز، والدلالة عليه ما تقدم، والبلاغة لا تتبين بأقل من ذلك. فلذلك لم نحكم بإعجازه. وما صح أن تتبين فيه البلاغة، ومحصولها الإبانة في الإبلاغ عن ذات النفس، على أحسن معنى، وأجزل لفظ، وبلوغ الغاية في المقصود بالكلام، فإذا بلغ الكلام غايته في هذا المعنى كان بالغاً وبليغاً، فإذا تجاوز حد البلاغة، إلى حيث لا يقدر عليه أهل الصناعة، وانتهى إلى أمر يعجز عنه الكامل في البراعة، صح أن يكون له حكم المعجزات، وجاز أن يقع موقع الدلالات، وقد ذكرنا أن بجنسه وأسلوبه مباين لسائر الكلام، ثم بما يتضمن من تجاوزه في البلاغة الحد الذي قدر عليه البشر.

اعتراض ورد عليه

فإن قيل: فإذا كان يجوز عندكم أن يتفق في شعر الشاعر قطعة عجيبة شاردة، تباين جميع ديوانه في البلاغة، ويقع في ديوانه بيت واحد يخالف مألوف طبعه، ولا يعرف سبب ذلك البيت، ولا تلك القطعة، في التفصيل. ولو أراد أن يأتي بمثل ذلك، ويجعل جميع كلامه من ذلك النمط، لم يجد إلى ذلك سبيلا، وله سبب في الجملة وهو التقدم في الصنعة، لأنه يتفق المتأخر فيها... فهلا قلتم. إنه إذا بلغ في العلم بالصناعة مبالغة قصوى كان جميع كلامه من نمط ذلك البيت، وسمت تلك القطعة، وهلا قلتم إن القرآن من هذا الباب?

فالجواب أنا لم نجد أحداً بلغ الحد الذي وصفتم في العادة، وهؤلاء الناس وأهل البلاغة: أشعارهم عندنا محفوظة، وخطبهم منقولة، ورسائلهم مأثورة، وبلاغاتهم مروية، وحكمهم مشهورة.. وكذلك أهل الكهانة والبلاغة، مثل قس بن ساعدة وسحبان وائل، ومثل شق وسطيح وغيرهم، كلامهم معروف عندنا، وموضوع بين أيدينا، لا يخفى علينا في الجملة بلاغة بليغ، ولا خطابة خطيب، ولا براعة شاعر مفلق، ولا كتابة كاتب مدقق. فلما لم نجد في شيء من ذلك ما يداني القرآن في البلاغة، أو يشاكله في الإعجاز، مع ما وقع من التحدي إليه المدة الطويلة، وتقدم من التفريغ والمجازاة الأمد المديد. وثبت له وحده خاصة قصب السبق والإستيلاء على الأمر، وعجز الكل عنه، ووقفوا دونه حيارى، يعرفون إعجازهم وإن جهل قوم سببه، ويعلمون نقصهم وإن أغفل قوم وجهه، رأينا أنه ناقض للعادة، ورأينا أنه خارق للمعروف، في الحيلة، وخرق العادة إنما يقع بالمعجزات على وجه إقامة البرهان على النبوات، وعلى أن من ظهرت عليه، ووقعت موقع الهداية إليه، صادق فيما يدعيه من نبوته، ومحق في قوله، ومصيب في هديه، قد سادت له الحجة البالغة، والكلمة التامة، والبرهان النير، والدليل البين.

الفصل الخامس عشر

في حقيقة المعجز

تعريف المعجز

معنى قولنا إن القرآن معجز على أصولنا أنه لا يقدر العباد عليه، وقد ثبت أن المعجز الدال على صدق النبي صلى الله عليه وسلم لا يصح دخوله تحت قدرة العباد، وإنما ينفرد الله تعالى بالقدرة عليه، ولا يجوز أن يعجز العباد عما تستحيل قدرتهم عليه. كما يستحيل عجزهم عن فعل الأجسام. فنحن لا نقدر على ذلك، وإن لم يصح وضعنا بأن عاجزون عن ذلك حقيقة، وكذلك معجزات سائر الأنباء على هذا. فلما لم يقدر عليه أحد، شبه بما يعجز عنه العاجز.

لو قدر على مثل القرآن العباد لبطلت دلالة المعجز

وإنما لا يقدر العباد على الإتيان بمثله، لأنه لو صحّ أن يقدروا عليه بطلت دلالة المعجز، وقد أجرى العادة أن يتعذر فعل ذلك منهم وأن لا يقدروا عليه، ولو كان غير خارج عن العادة لأتوا بمثله، وعرضوا عليه من كلام فصائحهم وبلغائهم ما يعارضه. فلما لم يشتغلوا بذلك، علم أنهم فطنوا لخروج ذلك عن أوزان كلامهم، وأساليب نظامهم، وزالت أطماعهم عنه.

التواضع ليس على قول الشعر ووجوه النظم

وقد كنا بينا أن التواضع ليس يجب أن يقع على قول الشعر، ووجوه النظم المستحسنة في الأوزان المطربة للسمع، ولا يحتاج في مثله إلى توقيف: وأنه يتبين أن مثل ذلك يجري في الخطاب، فلما جرى فيه فطنوا له، واختاروه، وطلبوا أنواع الأوزان والقوافي، ثم وقفوا على حسن ذلك، وقدروا عليه بتوفيق الله عز وجل، وهو الذي جمع خواطرهم عليه، وهداهم له، وهيأ دواعيهم إليه. ولكنه أقدرهم على حد محدود، وغاية في العرف مضروبة، لعلمه بأن سيجعل القرآن معجزاً، ودل على عظم شأنه، بأنهم قدروا على ما بينا من التأليف، وعلى ما وصفنا من النظم، من غير توقيف، ولا اقتضاء أثر، ولا تحد عليه، ولا تقريع.

القرآن لم يكن من القبيل الذي عرفوه

فلو كان هذا من ذلك القبيل، أو من الجنس الذي عرفوه وألفوه، لم تزل أطماعهم عنه، ولم يدهشوا عند وروده عليهم، فكيف وقد أمهلهم، وفسح لهم في الوقت، وكان يدعو إليه سنين كثيرة? وقال عز من قائل: "أَوَ لَمْ نُعَمِّركُم مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَاءَك النَّذِيرُ".

وبظهور العجز عنه بعد طول التقريع، والتحدي، بأنه خارج عن عاداتهم، وأنهم لا يقدرون عليه.

العرب تعرف ما يباين عاداتها من الكلام البليغ

وقد ذكرنا أن العرب كانت تعرف ما يباين عاداتها من الكلام البليغ، لأن ذلك طبعهم ولغتهم، فلم يحتاجوا إلى تجربة عند سماع القرآن، وهذا في البلغاء منهم دون المتأخرين في الصنعة.

والذي ذكرناه يدلك على أنه لا كلام أزيد في قدر البلاغة من القرآن، وكل من جوز أن يكون للبشر قدرة على أن يأتوا بمثله في البلاغة، لم يمكنه أن يعرف أن القرآن معجز بحال، ولو لم يكن جرى في العلوم أنه سيجعل القرآن معجزاً، لكان يجوز أن تجري عادات الأولين، وأخبار المرسلين.

إخبار عن الغيوب

وكذلك لا يوجد خلف فيما يتضمنه من الإخبار عن الغيوب، وعن الحوادث التي أنبأ أنها تقع في الآتي، فلا مخرج من أن يكون متأولاً على ما يقتضيه نظام الخطاب، من أنه لا يأتيه من يبطله من شبهة سابقة، تقدح في معجزته، أو تعارضه في طريقه.

لن يأتي أحد من بعده يشكك في وجه دلالته وإعجازه

وكذلك لا يأتيه من بعده قط أمر يشكك في وجه دلالته وإعجازه، وهذا أشبه بسياق الكلام ونظامه. ثم قال: "وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنَاً أَعْجَميّاً لَّقَالُواْ لَوْلاَ فُصِّلتْ آياتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَربِيٌّ".

فأخبر أنه لو كان أعجمياً لكانوا يحتجون في رده، إما بأن ذلك خارج عن عرف خطابهم، أو كانوا يعتذرون بذهابهم عن معرفة معناه، بأنهم لا يتبين لهم وجه الإعجاز فيه، لأنه ليس من شأنهم، ولا من لسانهم أو بغير ذلك من الأمور، وأنه إذا تحداهم إلى ما هو من لسانهم وشأنهم، فعجزوا عنه، وحيث الحجة عليهم به، على ما نبينه في وجه هذا الفصل. إلى أن قال: "قُلْ أَرَأْيتُم إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثمَّ كَفَرْتُم بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ".. والذي ذكرنا من نظم هاتين السورتين ينبه على غيرهما من السور، فكرهنا سرد القول فيها، فليتأمل المتأمل ما دللناه عليه، يجده كذلك.

الكتاب آية من آيات الله

ثم مما يدل على هذا قوله عزَّ وجلَّ: "وَقَالُوا لَوْلاَ أُنْزِلَ عَلْيِهِ آياتٌ مِنْ رَّبِّهِ قُلْ إِنَّما الآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وإِنَّما أَنَّا نّذِيرٌ مُبِينٌ. أَوَ لَمْ يَكْفِهِم أَنَّا أَنزَلنا عَلَيكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ"، فأخبر أن الكتاب آية من آياته، وعلم من أعلامه، وأن ذلك يكفي في الدلالة، ويقوم مقام معجزات غيره، وآيات سواء من الأنبياء صلوات الله عليهم.

ويدل عليه قوله عز وجل: "تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نذيراً".

وقوله: "أَم يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يختِم على قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحقَّ بِكَلِمَاتِهِ"، فدل على أنه جعل قلبه مستودعاً لوحيه، ومستنزلاً لكتابه، وأنه لو شاء صرف ذلك إلى غيره، وكان له حكم دلالته على تحقيق الحق، وإبطال الباطل، مع صرفه عنه...

بناء نبوة محمد على دلالة القرآن ومعجزته

ولذلك أشباه كثيرة تدل نحو الدلالة التي وصفناها، فبان بهذا، وبنظائر ما قلناه، أن بناء نبوته صلى الله عليه وسلم على دلالة القرآن ومعجزته، وصار له من الحكم في دلالته على نفسه وصدقه أنه يمكن أن يعلم أنه كلامُ الله تعالى. وفارق حكمه حكم غيره من الكتب المنزلة على الأنبياء، لأنها لا تدل على أنفسها إلا بأمر زائد عليها، ووصف منضاف إليها، لأن نظمها ليس معجزاً، وإن كان ما تضمنه من الإخبار عن الغائبات والغيوب معجزاً.

لا يشارك القرآن في الإعجاز كتاب منزل

وليس كذلك القرآن لأنه يشاركها في هذه المنزلة، ويزيد عليها في أن نظمه معجز، فيمكن أن يستدل به عليه، وحل في هذا من وجه محل سماع الكلام من القديم سبحانه، لأن موسى عليه السلام لم سمع كلامه، علم أنه في الحقيقة كلامه، وكذلك من يسمع القرآن، يعلم أنه كلام الله، وإن اختلف الحال في ذلك عند البشر، بقدر زائد على ما ألقوه من البلاغة، وأمر يفوق ما عرفوه من الفصاحة.

الله يقدر على نظم القرآن في الرتبة التي لا مزيد لها

وأما نظم القرآن: فقد قال أصحابنا إن الله تعالى يقدر على نظم القرآن في الرتبة التي لا مزيد عليها... وقال مخالفونا؛ إن هذا غير ممتنع، لأن فيه الكلمات الشريفة، الجامعة للمعاني البديعة، وانضاف إلى ذلك حسن الموقع، فيجب أن يكون قد بلغ النهاية، لأنه عندهم وإن زاد على ما في العادة، فإن الزائد عليها وإن تفاوت فلابد من أن ينتهي إلى حد لا مزيد عليه.. والذي نقول: إنه لا يمتنع أن يقال: إنه يقدر الله تعالى على أن يأتي بنظم أبلغ وأبدع من القرآن كله، وأما قدرة العباد فهي متناهية في كل ما يقدرون عليه، مما تصح قدرتهم عليه.

الفصل السادس عشر

في كلام النبي صلى الله عليه وسلم

وأمور تتصل بالإعجاز

إذا كان محمد أفصح العرب

فلماذا لا يكون القرآن من نظمه

إن قال قائل: إذا كان النبي صلى الله عليه وسلم أفصح العرب، وقد قال هذا في حديث مشهور، وهو صادق في قوله، فهلا قلتم إن القرآن من نظمه لقدرته في الفصاحة على مقدار لا يبلغه غيره.

البون بين كلام الله والرسول واضح

قيل: قد علمنا أنه لم يتحدَّهم إلى مثل قوله وفصاحته، والقدر الذي بينه وبين كلام غيره من الفصحاء كقدر ما بين شعر الشاعرين وكلام الخطيبين في الفصاحة ذلك مما لا يقع به الإعجاز. وقد بينا هذا أنا إذا وازنا بين خطبه ورسائله وكلامه المنثور. وبين نظم القرآن، تبين من البون بينهما مثل ما بين كلام الله عز وجل وكلام الناس.. ولا معنى لقول من ادعى أن كلام النبي صلى الله عليه وسلم معجز وإن كان دون القرآن في الإعجاز.

اشتباه المعوذتين على ابن مسعود

فإن قيل لولا أن كلامه معجز لم يشتبه على ابن مسعود الفصل بين المعوذتين وبين غيرهما من القرآن، وكذلك لم يشتبه دعاء القنوت في أنه هو من القرآن أم لا، ولا يجوز أن يخفى عليهم القرآن من غيره؛ وعدد السور عندهم محفوظ مضبوط. وقد يجوز أن يكون شذ عن مصحفه لا لأنه نفاه من القرآن، بل عول على حفظ الكل إياه. على أن الذي يروونه خبر واحد لا يسكن إليه في مثل هذا ولا يعمل عليه، ويجوز أن يكتب على ظهر مصحفه دعاء القنوت لئلا ينساه كما يكتب الواحد منا بعض الأدعية على ظهر مصحفه.

الاشتباه في المعوذتين ليس ثابتاً

وهذا نحو ما يذكره الجهال من اختلاف كثير بين مصحف ابن مسعود وبين مصحف عثمان رحمة الله عليهما، ونحن لا ننكر أن يغلط في حروف معدودة، كما يغلط الحافظ في حروف وينسى. وما لا نجيزه على الحفاظ، مما لم نجزه عليه، ولو كان قد أنكر السورتين على ما ادعوا لكانت الصحابة تناظره على ذلك، وكان يظهر وينتشر، فقد تناظروا في أقل من هذا، أمر يوجب التفكير والتضليل، فكيف يجوز أن يقع التخفيف فيه? وقد علمنا إجماعهم على ما جمعوه في المصحف، فكيف يقدح بمثل هذه الحكايات الشاذة المولدة بالإجماع المتقرر، والإتفاق المعروف?

قد يجوز أن يكون الناقل أشبه عليه

ويجوز أن يكون الناقل أشبه عليه، لأنه خالف في النظم والترتيب، فلم يثبتهما في آخر القرآن، والإختلاف بينهم في موضع الإثبات غير الكلام في الأصل، ألا ترى أنهم قد اختلفوا في أول ما نزل من القرآن، فمنهم من قال قوله: "اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ"، ومنهم من قال: "يَا أَيُّهَا الْمُدثَّرُ"، ومنهم من قال فاتحة الكتاب.

واختلفوا أيضاً في آخر ما أنزل، فقال ابن عباس: "إِذَا جَآءَ نَصْرُ اللَّهِ"، وقالت عائشة: سورة المائدة، وقال البراء بن عازب: آخر ما أنزل: سورة براءة، وقال سعيد بن جبير: آخر ما أنزل قوله تعالى: "واتَّقُواْ يَومَاً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلى اللَّهِ". وقال السدي آخر ما أنزل: "فَإِنْ تَوَلَّوا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيهِ تَوَكَّلْتُ" ويجوز أن يكون في مثل هذا خلاف، وأن يكون كل واحد ذكر آخر ما سمع.

البون بين كلام الله ورسوله

ولو كان القرآن من كلامه، لكان البون بين كلامه وبينه، مثل ما بين خطبة وخطبة ينشئها رجل واحد، وكان يعارضونه، لأنا قد علمنا أن القدر الذي بين كلامهم وبين كلام النبي صلى الله عليه وسلم لا يخرج إلى حد الإعجاز، ولا يتفاوت الكثير، ولا يخفى كلام من جنس أوزان كلامهم، وليس كذلك نظم القرآن، لأنه خارج من جميع ذلك.

لماذا لا يعرف القرآن معجز بالضرورة

فإن قيل: لو كان على ما ادعيتم، لعرفنا بالضرورة أنه معجز دون غيره... قيل: معرفة الفصل بين وزن الشعر ووزنه، والفرق بينه وبين غيره من الأوزان، تحتاج إلى نظر وتأمل، وفكر وروية واكتساب، وإن كان النظم المختلف الشديد التباين، إذا وجد أدرك اختلافه بالحاسة، إلا أن كل وزن وقبيل إذا أردنا تمييزه من غيره احتجنا فيه إلى الفكرة والتأمل.

لماذا اختلف أهل الله في وجوه إعجازه?

فإن قيل: لو كان معجزاً لم يختلف أهل الملة في وجه إعجازه.. قيل: قد يثبت الشيء دليلاً، وإن اختلفوا في وجه دلالة البرهان، كما قد يختلفون في الاستدلال على حدوث العالم من الحركة والسكون والإجتماع والإفتراق....

فأما المخالفون فإنه يتعذر عليهم أن يعرفوا أن القرآن كلام الله، لأن مذهبهم أنه لا فرق بين أن يكون القرآن من قبل الرسول أو من قبل الله عزَّ وجلَّ في كونه معجزاً، لأنه إن خصه بقدر من العلم لم تجر العادة بمثله، أمكنه أن يأتي بما له هذه الرتبة، وكان متعذراً على غيره لفقد علمه بكيفية النظم. وليس القوم بعاجزين عن الكلام، ولا عن النظم والتأليف.

والمعنى المؤثر عندهم في تعذر مثل نظم القرآن علينا فقد العلم بكيفية النظم، وقد بينا قبل هذا أن المانع هو أنهم لا يقدرون عليه. والمفحم قد يعلم كيفية الأوزان واختلافها، وكيفية التركيب وهو لا يقدر على نظم الشعر، وقد يعلم الشاعر وجوه الفصاحة وإذا قالا الشعر جاء شعر أحدهما في الطبقة العالية وشعر الآخر في الطبقة الوضيعة.

وقد ترد في شعر المبتدي والمتأخر في الحذق القطعة الشريفة، والبيت النادر، مما لا يتفق للشاعر المتقدم... والعلم بهذا الشأن في التفصيل لا يغني، ويحتاج معه إلى مادة من الطبع، وتوفيق من الأصل.

وقد يتساوى العالمان بكيفية الصناعة والنساجة، ثم يتفق لأحدهما من اللطف في الصنعة ما لا يتفق في الآخر...

وكذلك أهل نظم الكلام يتفاضلون، مع العلم بكيفية النظم، وكذلك أهل الرمي يتفاضلون في الإصابة، مع العلم بكيفية الإصابة.

إذا وجد لشاعر بيت أحسن من شعر امرئ القيس

فلا يدل على أنه أعلم

وإذا وجدت للشاعر بيتاً، أو قطعة أحسن من شعر امرئ القيس، لا يدل ذلك على أنه أعلم بالنظم منه، لأنه لو كان كذلك كان يجب أن يكون جميع شعره على ذلك الحد ، وبحسب ذلك البيت في الشرف والحسن والبراعة ، ولا يجوز ان يعلم نظم قطعة ويجهل نظم مثلها ،وان كان كذلك علم أن هذا لا يرجع إلى قدرة من العلم.

لا يستغنى عن العلم في النظم

ولسنا نقول: إنه يستغنى عن العلم في النظم، بل يكفي علم به في الجملة، ثم يقف الأمر على القدرة.

وهذا يبين لك بأنه قد يعلم الخط فيكتب سطراً، فلو أراد أن يأتي بمثله بحيث لا يغادر منه شيئاً لتعذر والعلم حاصل.

وكذلك قد يحسن كيفية الخط، ويميز الجيد منه من الرديء ولا يمكنه أن يأتي بأرفع درجات الجيد. وقد يعلم قوم كيفية إدارة الأقلام، وكيفية تصوير الخط، ثم يتفاوتون في التفصيل، ويختلفون في التصوير، وألزمهم أصحابنا أن يقولوا بقدرتنا على إحداث الأجسام، وإنما يتعذر وقوع ذلك منا، لأنا لا نعلم الأسباب التي إذا عرفنا إيقاعها على وجوه اتفق لنا فعل الأجسام.

مذهب بعض المخالفين

وقد ذهب بعض المخالفين إلى أن العادة انتقضت بأن أنزله جبريل، فصار القرآن معجزاً لنزوله على هذا الوجه، ومن قبله لم يكن معجزاً.. وهذا قول أبي هاشم وهو ظاهر الخطأ، لأنه يلزم أن يكونوا قادرين على مثل القرآن، وإن لم يتعذر عليهم فعل مثله، وإنما تعذر بإنزاله، ولو كانوا قادرين على مثل ذلك كان قد اتفق من بعضهم مثله، وإن كانوا في الحقيقة غير قادرين قبل نزوله على مثله، فهو قولنا.

وأما قول كثير من المخالفين فهو على ما بينا، لأن معنى المعجز عندهم تعذر فعل مثله، وكان ذلك متعذراً قبل نزوله وبعده.

هل للتأليف نهاية

فأما الكلام في أن التأليف هل له نهاية: فقد اختلف المخالفون من المتكلمين فيه، فمنهم من قال ليس لذلك نهاية كالعدد، فلا يمكن أن يقال إنه لا يتأتى قول قصيدة إلا وقد قيلت من قبل، ومنهم من قال إن ما جرت به العادة فله نهاية، وما لم تجر به العادة فلا يمكن أن نعلم نهاية الرتبة فيه، وقد بينا أن على أصولنا قد تقدر لكلامنا حد في العادة، ولا سبيل إلى تجاوزه ولا يقدر، فإن القرآن خرق العادة فزاد عليها.

الفصل السابع عشر

شروط المعجز

من شروط المعجز أن يعلم من ظهر عليه

إن قيل: هل من شروط المعجز أن يعلم أنه أتى به من ظهر عليه? قيل: لابد من ذلك. لأنا لو لم نعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي أتى بالقرآن، وظهر ذلك من جهته، لم يمكن أن يستدل به على نبوته...

وعلى هذا لو تلقى رجل منه سورة، فأتى بها بلداً؛ وادعى ظهورها عليه، وإنها معجزة له، لم تقم الحجة عليهم، حتى يبحثوا أو يتبينوا أنها ظهرت عليه، وقد حققنا أن القرآن أتى به النبي صلى الله عليه وسلم وظهر من جهته، وجعله علماً على نبوته، وعلمنا ذلك ضرورة فصار حجة علينا.

الفصل الثامن عشر

حول الإعجاز

لماذا اخترنا الوجيز من القول?

قد ذكرنا في الإبانة عن معجز القرآن وجيزاً من القول، رجونا أن يكفي، وأملنا أن يقنع، والكلام في أوصافه إن استقصى بعيد الأطراف، واسع الأكناف، لعلو شأنه وشريف مكانه.

والذي سطرناه في الكتاب وأن كان موجزاً، وما أمليناه فيه وإن كان خفيفاً، فإنه ينبه على الطريقة، ويدل على الوجه، ويهدي إلى الحجة، ومتى عظم محل الشيء فقد يكون الإسهاب فيه عيَّاً، والإكثار في وصفه تقصيراً، وقد قال الحكيم - وقد سئل عن البليغ متى يكون عيباً - فقال: متى وصف هوى أو حبيباً.

وضل أعرابي في سفر له ليلاً وطلع القمر فاهتدى به. فقال ما أقول لك? أقول: رفعك الله وقد رفعك? أما أقول نورك الله وقد نورك? أم أقول جملك الله وقد جملك?

لو اتفقت عقول الناس ومعرفتهم

لما اتفقوا في معرفة هذا الفن

ولولا أن العقول تختلف، والأفهام تتباين، والمعارف تتفاضل، لم نحتج إلى ما تكلفنا، ولكن الناس يتفاوتون في المعرفة، ولو اتفقوا فيها لم يجز أن يتفقوا في معرفة هذا الفن أو يجتمعوا في الهداية إلى هذا العلم، لاتصاله بأسباب، وتعلقه بعلوم غامضة الغور، عميقة القعر، كثيرة المذاهب، قليلة الطلاب، ضعيفة الأصحاب، وبحسب تأتي مواقعه يقع الإفهام دونه، وعلى قدر لطف مسالكه يكون القصور عنه.

أنشدني أبو القاسم الزعفراني قال: أنشدني المتنبي لنفسه القطعة التي يقول فيها:

وكم من عائبٍ قولاً صحيحاً

 

وآفته من الفهمِ السـقـيمِ

ولكن تأخـذُ الآذانُ مـنـه

 

على قدر القرائحِ والعلومِ

وأنشدني الحسن بن عبد الله قال: أنشدنا بعض مشايخنا للبحتري:

أهز بالشعر أقـوامـاً ذوي سِـنة

 

لو أنهم ضُربوا بالسيف ما شعروا

عليَّ نحتُ القوافي من مقاطعهـا

 

وما عليّ لهم أن تفهمَ الـبـقـرُ

فإذا كان نقد الكلام كله صعباً، وتمييزه شديداً والوقوع على اختلاف فنونه متعذراً، وهذا في كلام الآدمي، فما ظنك بكلام رب العالمين?

البلاغة واسعة ولا يفطن منها إلا اليسير

قد أبنا لك أن من قدر أن البلاغة في عشرة أوجه من الكلام، لا يعرف من البلاغة إلا القليل، ولا يفطن منها إلا لليسير.

ومن زعم أن البديع يقتصر على ما ذكرناه من قبل عنهم في الشعر، فهو متطرف... بلى إن كانوا يقولون إن هذه من وجوه البلاغة، وغرر البديع، وأصول اللطيف، وإن ما يجري مجرى ذلك ويشاكله ملحق الأصل، ومردود على القاعدة، فهذا قريب.

القرآن يشتمل على بلاغة منفردة

وقد بينا في نظم القرآن أن الجملة تشتمل على بلاغة منفردة، والأسلوب يختص بمعنى آخر من الشرف، ثم الفواتح والخواتم، والمبادىء والمثاني، والطوالع والمقاطع، والوسائط والفواصل.

ثم إن الكلام في نظم السور والآيات في تفاصيل التفاصيل، ثم في الكثير والقليل.

ثم الكلام الموشَّح والمرصَّع، والمفصّل والمصرّع، والمجنّس والموشى، والمحلّى والمكلّل، والمطوّق والمتوّج، والموزون والخارج عن الوزن، والمعتدل في النظم والمتشابه فيه.

ثم الخروج من فصل إلى فصل، ووصل إلى وصل ومعنى إلى معنى، ومعنى في معنى، والجمع بين المؤتلف والمختلف، والمتفق والمتسق، وكثرة التصرف، وسلامة القول في ذلك كله من التعسف، وخروجه عن التعمق والتشدق، وبعده عن التعمل والتكلف، والألفاظ المفردة، والإبداع في الحروف والأدوات، كالإبداع في المعاني والكلمات، والبسط والقبض، والبناء والنقض، والإختصار والشرح، والتشبيه والوصف، وتميز الإبداع من الإتباع، كتميز المطبوع عن المصنوع، والقول الواقع عن غير تكلف ولا تعملوأنت تتبين في كل ما تصرف فيه من الأنواع، أنه على سَمْت شريف، ومرقب منيف، يبهر إذا أخذ في النوع الربي والأمر الشرعي، والكلام الإلهي، الدال على أنه يصدر عن عزة الملكوت، وشرف الجبروت، ومما لا يبلغ مواقعه، من حكمة وأحكام، واحتجاج وتقرير، واستشهاد وتقريع، وأعذار وإنذار، وتبشير وتحذير، وتنبيه وتلويح، وإشباع وتصريح، وإشارة ودلالة، وتعليم أخلاق زكية، وأسباب رضية، وسياسات جامعة، ومواعظ نافعة، وأوامر صادعة، وقصص مفيدة، وثناء على الله عز وجل بما هو أهله، وأوصاف كما يستحقه وتحميد كما يستوجبه، وإخبار عن كائنات في التأتي صدقت، وأحاديث عن المؤتنف تحققت، ونواه زاجرة عن القبائح والفواحش، وإباحة الطيبات، وتحريم المضار والخبائث، وحث على الجميل والإحسان.

نجد في القرآن الحكمة وفصل الخطاب

نجد فيه الحكمة وفصل الخطاب مجلوة عليك. في منظر بهيج، ونظم أنيق، ومعرض رشيق، غير متعاص على الأسماع، ولا مغلق على الأفهام، ولا مستكره في اللفظ، ولا متوحش في المنظر، غريب في الجنس، غير غريب في القبيل، ممتلىء ماء ونضارة، ولطفاً وغضارة، يسري في القلب كما يسري السرور، ويمر إلى مواقعه كما يمر السهم، ويضيء كما يضيء الفجر، ويزخر كما يزخر البحر، طموح العباب جموح على المتناول المنتاب، كالروح في البدن، والنور المستطير في الأفق، والغيب الشامل، والضياء الباهر، "لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ".

من توهم أن الشعر يلحق شأو القرآن فقد بان ضلاله

من توهم أن الشعر يلحق شأوه بان ضلاله، وصح جهله، إذ الشعر سمت قد تناولته الألسن، وتداولته القلوب، وانثالت عليه الهواجس، وضرب الشيطان فيه بسهمه، وأخذ منه بحظه? وما دونه من كلامهم فهو أدنى محلاً، وأقرب مأخذاً، وأسهل مطلباً، ولذلك قالوا: فلان مفحم، فأخرجوه مخرج العيب، كما قالوا: فلان عيي، فأوردوه مورد النقص.

القرآن برهان وهو أعظم من برهان موسى وعيسى

والقرآن كتاب دل على صدق متحمله، ورسالة دلت على صحة قول المرسل بها، وبرهان شهد له براهين الأولياء المتقدمين، وبينة على طريقة ما سلف الأولون.. تحداهم به إذ كان من جنس القول الذي زعموا أنهم أدركوا في النهاية، وبلغوا فيه الغاية، فعرفوا عجزهم، كما عرف قوم عيسى نقصانهم، فيما قدروا من بلوغ أقصى الممكن في العلاج، والوصول إلى أعلى مراتب الطب، فجاءهم بما بهرهم: من إحياء الموتى، وإبراء الأكمه والأبرص، وكما أتى موسى بالعصا التي تلقفت ما برعوا فيه من سحرهم، وأنت على ما أجمعوا عليه من أمرهم، وكما سخر لسليمان من الرياح والطير والجن، حين كانوا يولعون بدقائق الحكمة، وبدائع من اللطف.. ثم كانت هذه المعجزة مما تقف عليه الأول والآخر وقوفاً واحداً، ويبقى حكمها إلى يوم القيامة.

انظر وفكر فالحق منهج واضح

أنظر وفقك الله لما هديناك إليه، وفكر في الذي دللناك عليه، فالحق منهج واضح، والدين ميزان راجح، والجهل لا يزيد إلا غماً، ولا يورث إلا ندماً، قال الله عزّ وجلّ: "قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الذينَ يَعْلَمُونَ والذينَ لاَ يَعْلَمُونَ إِنما يَتَذَكَّرُ أُولُو الأَلبَابِ"، وقال: "وَكَذَلَكَ أَوْحَينَا إِليَكَ رَوُحاً مِنْ أَمْرِنَا ما كُنْتَ تَدْرِي ما الكِتَابُ وَلاَ الإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا" وقال: "يُضَلُّ بِهِ كَثِيرَاً ويَهْدِي بِهِ كَثِيراً".

وعلى حسب ما آتى من الفضل، وأعطى من الكمال والعقل، تقع الهداية والتبيين، فإن الأمور تتم بأسبابها، وتحصل بآلتها، ومن سلبه التوفيق، وحرم الرشاد والتسديد، فكأنما خر من السماء فتخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق، لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلاً.

أحمد الله أن رزقك الفهم وإن ارتبت فازدد في التعلم

فاحمد الله على ما رزقك من الفهم إن فهمت: "وقُلْ رَبِّ زِدْني عِلْمَاً" "وَقُلْ رَبِّ أَعوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَيَاطِينِ".. وإن ارتبت فيما بيناه فازدد في تعلم الصنعة، وتقدم في المعرفة، فسيقع بك على الطريق الأرشد، ويقف بك على الوجه الأحمد، فإنك إذا فعلت ذلك أحطت علماً، وتيقنت فهماً.

ولا يوسوس إليك الشيطان، بأنه قد كان ممن هو أعلم منك بالعربية، وأرجح منك في الفصاحة، أقوام وأقوام، ورجال ورجال، فكذبوا وارتابوا لأن القوم لم يذهبوا عن الإعجاز، ولكن اختلفت أحوالهم: فكانوا بين جاهل وجاحد، وبين كافر نعمة وحاسد، وبين ذاهب عن طريق الاستدلال بالمعجزات وحائر عن النظر في الدلالات، وناقص في باب البحث ومختل الآلة في وجه الفحص، ومستهين بأمر الأديان، وغاو تحت حبالة الشيطان، ومقذوف بخذلان الرحمن... وأسباب الخذلان والجهالة كثيرة، ودرجات الحرمان مختلفة.

اعتبر بلبيد وحسان وكعب في حسن إسلامهم

وهلاَّ جعلت بإزاء الكفرة مثل لبيد بن ربيعة العامري في حسن إسلامه وكعب بن زهير في صدق إيمانه، وحسان بن ثابت، وغيرهم من الشعراء والخطباء الذين أسلموا.. على أن الصدر الأول ما فيهم إلا نجم زاهر، أو بحر زاخر.

اعتصم بالله

وقد بينا أن لا اعتصام إلا بهداية الله، ولا توفيق إلا بنعمة الله، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.

فتأمل ما عرفناك في كتابنا، وفرغ له قلبك، وأجمع له لبك، ثم اعتصم بالله يهدك، وتوكل عليه يغنك ويجزك، واسترشده يرشدك، وهو حسبي وحسبك ونعم الوكيل.

 

---

 

---

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق